الجميع يعرف أن المظاهر خداعة، وكلنا مر في حياته بالعديد من المواقف التي تجعل الإنسان يسخر من مواقف بعض الناس الذين يقللون من غيرهم بسبب شيء من كلامهم غير الموزون، أو سلوكهم الطائش، أو نزقهم الطفلي إلى لفت الأنظار، حدثت معي الكثير من مثل هذه المواقف التي تعبر عن النظرات الضيقة، المنغلقة لبعض الأفراد الذين لا يرون في من أمامهم إلا مجموعة قاصرة من الشباب، وبالذات في مرحلة الشباب، حيث لم تتضح الموهبة وهي تتشكل في فضاءاتها الأولى على هيئة طيور تحاول التحلق إلى الأعلى.
أذكر أننا عندما كنا شباباً اشتغلنا تواً في عام 1967م، وكل منا له وظيفته المختلفة، وكنا خارجين من هزيمة حزيران التي صدمت الأكبر سناً منا بحلم الوحدة العربية، لكنها لم تؤثر فينا نحن الطيور التي بدأت تتعرف على طريقها، كنا نكتب الشعر؛ عبدالحميد القائد ويعقوب المحرقي وأنا، القائد يعمل في طيران الخليج، والمحرقي في البنك العربي والشرقاوي في مختبرات وزارة الصحة.
كنا قريباً من دوار الحورة، الدوار الذي كان يحتضن في داخله شجرة كبيرة عجوز قريباً من مسجد البلوش، لا أذكر إن كنا خارجين من أحد المطاعم، الذي أذكره جيداً، أننا كنا نضحك ضحكاً هستيرياً، كأن لا وجود لغيرنا في الطريق، وكأننا نملك الطريق والدوار والأرض التي نمشي فوقها والسماء التي تتابعنا من مكانها القصي.
ونحن في هذه الحالة النادرة من الضحك مر علينا اثنان من الشباب الأكبر سناً، وربما من مثقفي تلك الفترة، نظرا إلينا نظرة غريبة فيها شيء من الاستهانة، وسمعنا أحدهما يقول للثاني، وربما كانا يتحاوران في موضوع الشباب والقراءة، وكأنما حصل ما يريد من مثال فقال: "انظر هؤلاء كنموذج للشباب المستهتر".
واصلنا ضحكنا غير مهتمين بهذا الرأي المستهجن، بسبب بسيط؛ هو أننا كنا في تلك الفترة من حياتنا نقرأ بنهم كل ما يمر أمامنا من كتب وأفكار خارجة عن المألوف، في نفس الوقت كنا نكتب ما نسميه قصائد ونقرأها فيما بيننا.
السؤال الذي أطرحه بعد حوالي نصف قرن من هذه الحادثة؛ أين ذهب اللذان نعتونا بالاستهتار؟ وماذا قدما للمجتمع الذي ينتميان إليه؟ وأي فعل في الواقع قمنا به نحن المستهترون حينذاك؟ وهل يصح أن نطلق على كل من لا تعجبنا طريقته أو فكرته، خاصة في مرحلة الشباب، أنه لا يفهم أو لا يعي ما حوله؟
وأنا أكتب هذا العمود، تتقدم مني إحدى طرائف الشيخ الراحل علي الطنطاوي، والتي تحمل الكثير لمن سمعه أو قرأ بعض ذكرياته، يقول الطنطاوي.. إنه انتدب ليدرّس ا?دب في العراق، وقبل أن يدخل إلى القاعة في الجامعة تجول في بغداد ومشى طويلاً، ثم دخل القاعة في حالة رثة، فظنه ا?ستاذ الذي كان موجوداً عندهم طالباً.
قال ا?ستاذ الموجود للشيخ علي الطنطاوي وهو يظنه طالباً قال له: وأنت يا "حمار"؛ لماذا تأخرت عن المحاضرة؟
فاعتذر منه الشيخ علي ودخل الصف وجلس مجلس الطلاب.
فصار ا?ستاذ يقول للطلاب: سيأتي لتدريسكم ا?ديب الكبير علي الطنطاوي، لا تسودوا وجهي أمامه، ثم صار يسألهم في ا?دب والشيخ علي يجيب كطالب.
ثم قال له ا?ستاذ: هل تستطيع المقارنة بين البحتري وأبي تمام، فتكلم الشيخ علي كلاماً رصيناً فقال له ا?ستاذ: الظاهر أنك طالب جيد.. ما اسمك؟
فقال له: اسمي علي الطنطاوي.. فكاد ا?ستاذ أن يغمى عليه.
يقول ناقل القصة "متى نتعلم ألا نحكم على الناس بالمظهر"، ليس عليك "إسعاد" كل الناس، ولكن عليك أن ? تؤذي أحداً من الناس. لا تصدر حكم قيمة على أحد، فقد يكون هو من يرفع اسمك في يوم من أيام هذا العالم، وقد يكون هو من ينتشلك من ظرف قادم لا تعرف كيف أتى..
حكم قيمة لا تصدر.