مفهوم التأشيرة والكفالة الدارجة لا تحتاج إلى كثير من التفصيل، فهي ببساطة أن تتكفل بأجنبي على سجلك ونشاطك أو أن تكون ضامناً له بهويتك ليدخل بلدك زائراً أو مقيماً ليقدم خدمة لقاء أجر وأنت تكون له ضامناً أمام الجهات الرسمية عن ضبط تحركاته والتزامه بالقوانين واللوائح النافذة.
لكن من أغرب ما تناقلته وسائل الإعلام هذه الأيام، والذي يمثل قمة العهر والانحطاط السياسي والأخلاقي، ما حدث لآلاف النازحين العراقيين من سكان محافظة الأنبار الصابرة وأهلها العرب الكرماء الأصلاء، الذين فروا بجلدهم مذعورين من جحيم المعارك الطاحنة والقصف العنيف وبطش الإرهاب، حيث كانت مدنهم وقراهم ساحة له، فوقعوا ضحية بين نارين؛ إما المكوث في بيوتهم والتي لا يعلمون متى تهوي عليهم سقوفها فتمزقهم أشلاء ويعقبها دخول الميلشيات المنفلتة لتبيد من نجا منهم عن بكرة أبيه، حيث أن بقاءهم فيها وعدم مغادرتهم يفسر على أنهم من مؤيدي ومناصري الإرهاب و(داعش) بالتحديد، وكما حدث مع العشرات من العوائل التي نحرت كالخراف على أيدي المليشيات المسعورة في تكريت، ومن ثم حرقت وهدمت واستبيحت بيوتهم ومحالهم وحتى مساجدهم بعد اكتساحها، فحدث الانتقام بأبشع صوره، فأثر ذلك الموقف والتصرف وترك أثره العميق في نفوس قاطني تلك المناطق المغلوبة على أمرها.
وإما العزم على ترك مدنهم وقراهم وأملاكهم خارجين فارغي الأيدي، حاملين على كواهلهم المنهكة أطفالهم ومقعديهم ومعوقيهم وعجائزهم، قاطعين عشرات الكيلومترات مشياً على الأقدام في مشهد تنخلع له القلوب فارين من ذئاب بهيئة بشر، علهم يجدون قلوباً رحيمة أمينة وقاصدين أقرب المدن وأحبها لهم، العاصمة الغافية بغداد الرشيد، والتي طال رقادها، فلهم فيها امتداد عشائري ومصاهرة وتاريخ مشترك، فإذا بالحكومة المتسلطة على رقابهم وأجهزتها الأمنية تقف لهم بالمرصاد وتمنعهم من دخولها وتتركهم في العراء يكابدون الجوع والعطش والمرض، وبعد ضغوطات وتوسلات رق قلب تلك الحكومة وذرفت دموع التماسيح على مأساتهم وهي من سلبتهم حق المواطنة بتصرف مقيت قل نظيره، ولم تسبقها حتى حكومة الكيان الصهيوني مع عرب فلسطين، وأصدرت أخيراً تعليماتها بأن يسمح لتلك العوائل المشردة المنهكة باللجوء إلى بغداد لكن عن طريق كفيل.
هنا بيت القصيد والطامة الكبرى، فهذه أغرب وأصعب تأشيرة دخول وكفالة تحدث لمواطن يكفله مواطن مثله في بلده، لذلك يجب أن تتنبه منظمة حقوق الإنسان وتودع تلك الحادثة لدى سجلاتها ولدى موسوعة غينتس كأغرب فضيحة سياسية ومعاناة مواطن في بلده.
ومن الذي يجرؤ من سكان بغداد على كفالة أي فرد منهم؛ وهم في نظر تلك الحكومة وأجهزتها القمعية إرهابيون ودواعش، فكل منطقة دخلتها داعش نتيجة خوار جيشهم يتحمل وزرها أهالي تلك المدن، وهم بنظر الحكومة وقواتها وحشدها دواعش وحواضن لها، فتنطبق عليهم تهمة الإرهاب وهم بالتالي هدف لنيرانهم وانتقامهم.
وبعد اتصالات حثيثة ومشاورات لحفظ ماء وجه العديد من الساسة المتنفعين، والذين يمثلون زوراً أولئك البؤساء الذين تسلقوا على رقابهم والذين ابتلوا بهم، فلو ظلوا دون تمثيل لكان أرحم لهم ممن يمثلهم علناً ويطعن في ظهرهم سراً، وجه رئيس الحكومة بإيوائهم داخل سجن أبو غريب سيء الصيت وباحات المساجد ونصب خيماً في العراء، واختلف الموقف الشعبي هنا تماماً وابتعد عن نهج تلك الحكومة التي مزقت برقع الحياء وبانت سوأتها، فقد انتخى عشائر الوسط والجنوب العرب الأصلاء وضربوا أبهى أنواع صور التلاحم والمحبة بتقديمهم كل أشكال الدعم والمساعدة والضيافة لإخوانهم في محنتهم. في الجهة المقابلة تتفاخر تلك الحكومة أنها ألغت وأوقفت كل الإجراءات الرسمية وسهلت دخول أحبائها وأولي نعمتها الإيرانيين والمليشيات وقوات سليماني، فهم يجوبون البلاد طولاً وعرضاً دون تأشيرة أو كفيل، وكأنهم ملائكة هبطوا من السماء ويتخيلون أنهم في إحدى مقاطعات إمبراطورية إيران وبخيرها يتنعمون، ويحرم المواطن العراقي وابن الأنبار على وجه الخصوص من الاستنجاد بإخوته والركون إلى حضن أمه بغداد الجاثية الحزينة والتي كثر عاقوها وشرد وكبل محبوها، وهم أهل المضارب والجود والنعم.. وعنوان الضيافة والرجولة والكرم، والتي لم تخمد نار دلالهم بعد، وكانت الأنبار وما زالت ملاذاً لكل العراقيين عرباً وكرداً سنة وشيعة عند الشدائد والمحن.
لكم الله يا أهل الأنبار والموصل الحدباء وصلاح الدين، ويا أهل هيت وحديثة والفلوجة والكرمة والقائم، لكم الله يا أهل العراق جميعاً؛ إنه كابوس ثقيل وليل مظلم طويل.