«تانيا»؛ فتاة ثلاثينية ذات ملامح هادئة جميلة جداً، ذات شعر بني ذهبي وعينين زرقاوين أو رماديتين.. التقيتها صدفة في المطار، وتبادلنا أطراف الحديث، سألتني من أي البلدان أنا، فقلت لها إنني خليجية، وكم اعترتها الدهشة إذ لم أقل لها مباشرة من أي بلد تحديداً؛ فأخبرتها أن «الخليج العربي» مظلتنا الجامعة، وأننا نخطو نحو مزيد من التكامل إلى الاتحاد، وأننا نفخر بالانضواء تحت لواء هذا الوطن الكبير.
من جهتها استرسلت في استعراض نقاط التقارب بين الخليج وبلدها «روسيا»، كان حديثاً شيقاً وثرياً، ناقشنا كيف أن العلاقات البينية أخذت في التطور لاسيما في العقد الأخير، وأنه جرى توقيع سلسلة من الاتفاقات الاقتصادية والتجارية بين روسيا وعدد من الدول الخليجية، وكيف أسهمت المواقف الروسية في مجريات أحداث الربيع العربي حفاظاً على «سيادة الدول» و«البعد الإنساني» حسب تعبيرها، فيما لمعت في ذهني ومضة تقول «المصالح.. المصالح»، وبصفة أكثر شمولية.. وصفت كيف كانت موسكو قريبة جداً قريبة من قضايا العرب طوال القرن العشرين. كان لدي الكثير لأقوله، والمزيد من الأسئلة العالقة تمنيت لو أحصل لها على إجابة، لكنه النداء الأخير لرحلتي.
وما أن أقلعت طائرتي إلى وجهتها، أقلع عقلي إلى غير وجهة.. إلى «روسيا»؛ وقد أخذ بطرح سيل من الأسئلة لا ينتهي؛ هل يمكن التعاون بثقة تامة وبأمان مع روسيا في ظل حلمها في كسر أحادية القطب على الساحة العالمية، فضلاً عن «الحلم الأبدي للقياصرة الروس» في المياه الدافئة؛ ما قد يشي بأطماع جديدة يواجهها الخليج العربي وعموم المنطقة؟ ثم ماذا عن العلاقات الروسية الدولية لاسيما مع إيران؟! هل سيكون هناك ثمة تحالف بين الطرفين ضد الخليج العربي في ظل اتحاد الحلم والمطامع، أم سيفرز التقارب الخليجي مع روسيا نوعاً من الضغط على إيران للكف عن التدخل في شؤون الخليج العربي وتهديده وإعادة الاستقرار للمنطقة؟!
روسيا في مرحلة تكاد تكون استعادت فيها شيئاً من هيبتها ومكانتها العالميتين، في الوقت الذي يستعيد فيه الخليج نفوذه وسيادته للمنطقة، ما يمنحه مزيداً من التمكن والقدرة في إدارة العلاقات الدولية مع أطراف متفرقة، واتخاذ مواقف أكثر وضوحاً من تلك العلاقات بالسلب أو الإيجاب، ولعله عنصر مشترك يجمع الطرفين، إلى جانب ما قد يشكله التقارب الروسي-الخليجي من تهديد للولايات المتحدة الأمريكية كون الطرفين أكبر منتجين للنفط في العالم، ما يزيد من وزن روسيا جيوسياسياً ويهدد الدور الأمريكي ونفوذه في المنطقة بشكل عام، فضلاً عن تهديد أمن الطاقة الأمريكي. في اليوم التالي.. بدأت أقلب صفحات بعض الكتب التي ارتأيتها مراجع مناسبة لدراسة أعدها، كان من بينها كتاب ثري جداً عنوانه «العرب وإيران.. مراجعة في التاريخ والسياسة» متمخض عن ندوة علمية أقامها «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، وهو ما شدني للبحث عن مزيد من المراجع في هذا الشأن في الموقع الإلكتروني للمركز، وإذا بخبر يستوقفني عن عزم المركز عقد مؤتمر أكاديمي، في نهاية الشهر الجاري بالدوحة، حول العلاقات العربية-الروسية؛ لتحقيق جملة من الأهداف، أهمها؛ إبراز التقارب والتناقض في طبيعة التفاعل التاريخي العربي-الروسي، تحديد مواقع العرب وتركيا وإيران وإسرائيل في الاستراتيجية الروسية تجاه المنطقة، وديناميات التفاعل بين هذه القوى في ضوء التطورات الراهنة في الإقليم، التعرف إلى موقف روسيا من ثورات الربيع العربي ودوافعه ومنطلقاته والتغييرات التي طرأت عليه، إن كان ثمة تغييرات، والتحقق من وجود خيارات عربية واقعية في التعامل مع روسيا، ومواقفها المعارضة لطموحات الشعوب، إلى جانب التعرف إلى دور النخب الثقافية العربية التي درست أو مازالت تقيم في روسيا، والتحقق من مدى إمكانية بناء لوبي مسلم فاعل. نعم.. هذا ما كنا بانتظاره.. ما أحوجنا إليه.
اختلاج النبض..
إن اختيار موضوع العلاقات العربية-الروسية، جاء في الوقت المناسب تماماً، نظراً لأسباب عدة وتساؤلات بحاجة ملحة لإجابات علمية واستشرافات ناجعة، إن الخليج العربي أحوج ما يكون لفهم المجتمع الدولي اليوم بصورة أكثر وضوحاً من ذي قبل، لاسيما روسيا لما تشكله من أهمية بالغة في ميزان القوى الدولي باعتبارها القطب الثاني في العالم. مؤتمر كهذا يجعلنا ننتظر بفارغ الصبر ما قد يتمخض عنه من نتائج قد توجه وتقيم إلى حد بعيد سياساتنا تجاه روسيا بعد أن فشلنا في التواصل معها في محطات ظرفية وزمنية سابقة.