بانتهاء الحرب الباردة، تغير معنى «الثورة» في ما تغير؛ فقد تراجعت «الثورة» الطبقية المطعمة قومياً، وتلك القومية المطعمة طبقياً، لمصلحة «الثورة» الديموقراطية. وكانت تحولات أوروبا الوسطى والشرقية، معطوفة على سقوط الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية وإندونيسيا، وطي العنصرية في جنوب إفريقيا، برهان التغير هذا. فـ «الحرية» أزاحت «التحرر»، و»السلمية» أطاحت «العنف الثوري»، و»حقوق الإنسان» شغلت المساحات التي أخلتها «حقوق الأمة» و»دور الطبقة»، بينما صعد «الناشط» وانحدر «الرفيق المناضل»، ومحل القبضات المشدودة العضل صارت الثورات تُكنى بأنواع الزهر والمخمل.
وبعدما كان الاتحاد السوفياتي، وجزئياً الصين الشعبية، مرجعية العمل الموصوف بالثورية، صارت الولايات المتحدة هذه المرجعية المطابقة لصعود الأجندة الديموقراطية بدل الأجندتين الطبقية والقومية. فـ «الثوار» الجدد في أقاصي الأرض لا يفوتون فرصة لإعلان الشبه بالحياة السياسية في الغرب والتقرب من واشنطن، وقادتُهم القابعون في سجون الديكتاتوريات لا ينتظرون إلا إشادة أو تنويهاً من وزير الخارجية الأمريكي.
والأهم أن الراغبين في تغيير تمنعه بالقوة أنظمة مستبدة، لا يترددون في مطالبة الولايات المتحدة بالتدخل، ضاربين بعرض الحائط مبدأ «السيادة» الذي لطالما رفعه «القوميون» في وجه «الإمبرياليين».
لكن مثلما عرف الزمن المرجعي السوفياتي حُقباً مختلفة فيها الطور «اليميني» والطور «اليساري»، عرف الزمن المرجعي الأمريكي، ويعرف، شيئاً من هذا. فمع بيل كلينتون كان التدخل المضبوط الذي لم يشتط إلا في البلقان. ومنظوراً إلى تلك السياسة في عمومها، فإنها تتبدى أقرب إلى جس نبض للعالم بعد انتهاء القطبية الثنائية. ثم كانت المرحلة الراديكالية المفرطة والمتهورة مع جورج دبليو بوش، وعنواناها الكبيران حربان كبريان في أفغانستان والعراق، لتحل، بعد ذلك، مرحلة اللاتدخل الأوبامية، حيث يقتصر الفعل التدخلي على الجو، كما في ليبيا، فيما الطائرة من دون طيار رمز التدخل الأبرز.
ومثلما كان بعض «ثوريي» الزمن المرجعي السوفياتي ينتقدون الكرملين ويتهمونه ببيع ثوراتهم، وهو ما تردد في إسبانيا الثلاثينات ويونان الأربعينات وعراق السبعينات وسواها، فإن «ثوريي» الزمن المرجعي الأمريكي لديهم الكثير يقولونه عن بيع البيت الأبيض ثوراتهم وتواطئه عليها.
وهنا تلوح أزمة فهم متبادل؛ فالثوريون يبالغون في تقديرهم حساب الأخلاق والمبادئ المعلنة فيما يقتصدون في تقديرهم الأكلاف، لا سيما حين يكون دافعها نظاماً معنياً بمحاسبة ناخبيه وبرغباتهم، فضلاً عن الحدود التي أملتها عليه حساباته الاستراتيجية. والأميركيون، بعد «أممية» بوش البسيطة، أسيرو نموذج للثورات لا يكتم تمركزه حول التجارب السلمية للتغيير، حيث المنافع بلا أكلاف. وحيث الثورة إمكان لم يتحقق بعد، تلوح «عقيدة أوباما»، كما سماها توماس فريدمان في حواره مع سيد البيت الأبيض، انفتاحاً سلمياً يمهد لتحسين شروط الثورة. فـ «الجدران التي يهدمها أوباما» مع كوبا وإيران ربما جرى تعقلها أمريكياً كشرط لتسريع الثورة، وكضمان مسبق لسلميتها. فالسؤال الأوبامي هو بالتالي؛ كيف نعبد الطريق في بلدان ككوبا وإيران، عبر السلم والانفتاح واسترخاء الأعصاب والطمأنة إلى عدم تكرار الأفعال الأمريكية إبان الحرب الباردة، لظروف مثل ظروف أوروبا الوسطى؟ ويبدو أن هذا إنما يعادل، أمريكياً، «إنضاج الشرط الموضوعي» الذي يخفف العبء الذاتي مقللاً الحاجة بالتالي إلى العنف وإلى التدخل.
وفي معزل عن توتر قد يطول أمده على هامش سوء التفاهم الكبير هذا، وعن ريبة يتبادلها الحلفاء «الموضوعيون»، يبقى أن الثورات التي تستنكف أمريكا عن الحماسة لها هي اليوم ثورات حُرمت مرجعيتها الكونية حتى بات سوء الحظ رفيقاً ملازماً لها، تماماً كحال تلك المغدورة والمتخلى عنها في زمن المرجعية السوفياتية. وهذا مما يغيب عن نقاد الثورات من موقع أنها «أمريكية»، غير منتبهين إلى نقص أمريكيتها، وإلى نقص حماسة أمريكا الأوبامية لها، تبعاً لدفتر شروطها القاسي. لكن أكثر ما يفوت هؤلاء النقاد أنهم لا يزالون عالقين في الزمن ذي المرجعية السوفياتية للثورات، ووفقاً له يحاسبونها.
- عن جريدة «الحياة»