سألناها ونحن نراها تتابع عملها باستمرار عن طريق الهاتف رغم أننا كنا في سهرة عائلية جميلة في إحدى الدول المجاورة: عندما كنا صغاراً لم يكن هناك الكثير بدولتكم سوى البرج ذي الثلاثين طابقاً، حيث كنا نعرج عليه في كل زيارة لكم لمطالعته إلى جانب سوقكم القديم، أما اليوم فما شاء الله العمار بات في كل مكان على أيدي أبنائكم ودولتكم تطورت بشكل خاطف جعلها تتقدم علينا حتى بأشواط، ما السبب في هذه النقلة النوعية التي حصلت لكم رغم زيادة عدد الأجانب لديكم؟
قالت لي كلاماً كثيراً أهمه؛ إن دولتنا حريصة على استثمار الشباب وإظهارهم وتمكينهم قيادياً ومحاسبة من لا يظهرهم، صحيح لدينا أجانب كثر لكن سياستها معهم جاءت عن طريق توطين الوظائف من خلال جلبهم كمديرين ومستشارين أجانب وعقد عقود سنوية معهم وإلزامهم بتدريب طواقم العمل من الشباب المواطنين تحتهم وتهيئتهم ليكونوا قادة ومديرين، وهناك آلية التدوير بمعنى لن يخاف هذا الأجنبي على منصبه بعد أن يهيئ هؤلاء المواطنين ويعتبره مصدر تهديد لرزقه لأنه سينقل إلى إدارة ومواقع أخرى لتهيئة آخرين وهكذا، أما من لا يلتزم بذلك فينهي عقده فوراً ويعاد إلى بلده!
لدينا مراقبة صارمة وشديدة خاصة في المواقع التي يعمل فيها المواطنون ويمنحوننا البريد الإلكتروني للمسؤول الكبير في الوزارة أو الجهة التي نعمل فيها، وإن حاول أحد ظلمنا أو تهميشنا بإمكاننا حتى أن نشتكي عند حاكمنا ونتواصل معه، صحيح أن هنا الكثير من الأجانب معنا وهناك محسوبيات وواسطات بكل مكان لكننا نعمل ونحن مؤمنون أن ظهرنا ليس المسؤول الفلاني أو العلاني إنما بإمكاننا مخاطبة الحاكم حتى ومراسلته ليأخذ حقنا، هل سمعتِ بقصة الوزير الذي طار؟
في كل سنة هناك برنامج حكومي متكامل يعرض الوزارات والمؤسسات التي حققت المراكز العشرة الأولى على مستوى الدولة، وقد لوحظ أن أخطاء وزارتنا كما هي ولم تصحح خلال السنتين الماضيتين ولانزال في المراتب الأدنى في التقييم، وهناك الكثير من التجاوزات والأخطاء وفي نهاية الحفل الذي حضرناه ضمن هذا البرنامج الحكومي وبعد أن كرم الوزارات الفائزة بجوائز التميز والتقدم اصطحب بسيارته الخاصة الوزير بعد أن تناول معه وجبة الغداء، وعندما وصل أبلغه بأنه تم الاستغناء عنه «وقعده في بيتهم».. تخيلي يوم الخميس كان معنا وجئنا يوم الأحد لنكتشف أن الوزير طار وأنهيت خدماته، لذا فكل مسؤول بات يصيبه الرعب مع اقتراب موعد التقييم لوزارته والتأكد من تصحيح الأخطاء الجارية.
قرأت في كلامها الكثير، فالضمانة التي أوجدوها بدولتهم وعصا الرقابة الشديدة والحازمة هي ما أوجدت المثل الذي يقول «اضرب المربوط يخاف المنفلت»، وللأسف بدولتنا الكثير من المنفلتين طالما عصا العقاب بعيدة عنهم واستحضرت موقفاً وقع خلال أيام الانتخابات من أعوام عديدة حينما جلس بجانبي صحافي يحسب على الصحف الصفراء لدينا وراح يتناقش معي ويقول: في كل دولة حتى الدول المجاورة لنا هناك فساد وسرقات تتم وتخبط إداري في جهاتها لكن التخبط يكون بنسبة 30%.. 50%.. معليش حتى لو 70% لكن أن ترتفع النسبة وتتضخم كل سنة هنا المشكلة، لذا هناك من الشباب من انجر وراء أصحاب المواقف التأزيمية الذين خلطوا طموحاتهم وحقوقهم بالأوراق السياسية المغرضة.
لحظتها وأنا أتأمل في كلامه أدركت أن النسبة فعلاً تختلف، عندما يقال لنا «في كل دولة يحدث ما تتحدثون عنه.. بها فساد ومحسوبيات وظلم وتفضيل للأجنبي على المواطن وهضم للحقوق»، نعم كلامكم صحيح لكن النسبة يا سادة تختلف، النسبة يحاول المسؤولون بهذه الدول المجاورة تقليلها أو حصرها في مواقع معينة غير مفصلية بالدولة وإيجاد ضمانات رقابية تمنع تفاقمها لا أن تتكاثر وتتحول كما الفيروس الذي لا شفاء منه، لا أن تصاب بالسمنة كتقرير ديوان الرقابة المالية الذي يجب أن يوضع عليه إعلان تحذيري مثل ذاك الذي يوضع على علب السجائر تجنباً لتصلب الشرايين وأمراض القلب والرئة.
إن الفساد المالي الذي يستعرض كل سنة في تقرير الرقابة المالية الوجه الآخر له الفساد الإداري والقانوني الذي يتم، وزيدوا على ذلك علم بعض المسؤولين عن كل ما يحدث والتزامهم الصمت وعدم اتخاذ إجراء أو قرار حاسم يجعل البقية لا يسيرون على قناعة «كا اللي قبلي باقوا ونهبوا وتجاوزوا ومحد سوالهم شي» ظاهرة، «الظهور القوية المحمية» يجب ان تنتهي فوراً من عهد العمل المؤسساتي بالبحرين إن كنا دولة ننشد التطور والتقدم والرقي، ظاهرة لا نحاسب المخطئ لأنه منا وفينا و«ولدنا» أو لأي اعتبارات ومحسوبيات تعني أنني سأتسبب بالمشاكل في مواقع أخرى بالدولة ذات صلة بمؤسستي، في دولة قريبتي لم يتراجع أحد ما عن «تطيير الوزير» بعيداً عن أي اعتبارات، ونحن بالبحرين كثير من وزرائنا أكفاء ولكن من تحتهم من مسؤولين هم من يحتاجون إلى «تطيير» ليكونوا عبرة للآخرين وبداية لتصحيح مسارات الأمور.
عندما يظلم موظف صغير ولا ينصر يعني أنني سأعزز شعور شلل الفساد وسأوجد نموذجاً سيئاً عن الموظف الذي ظلم بأنه لا أحد سيأخذ حقه، وبالتالي من يعانون مثله عليهم إما أن يلزموا الصمت أو يتحولوا إلى موظفين من ذوي البطالة المقنعة أو يندمجوا مع المفسدين، عندما يتكلم موظف ويكشف الفساد ويقولون له «طيب وتكلمت وبعدين يعني؟ تتوقع في إجراء بيتخذ مثلاً؟»، ولا يتغير الحال عكس ظاهرة الوزير الطائر في الدول الأخرى.
إن الفساد الإداري بداية كرة الثلج التي توجد بالنهاية تقرير فساد مالي متضخم، لو أوجد ديوان للرقابة الإدارية محايد وفي جهة مستقلة ليتظلم إليه الموظفون من مختلف جهات ومؤسسات الدولة لكشف الغطاء عن العديد من «البلاوي» التي تكون أحد أهم أسباب تضخم الدين العام للدولة، وعبارة «ريوس» التي راح ينشرها المتهكمون على سوء إدارة بعض الجهات، كما الدول المجاورة لا ترتضي إلا برقم «واحد» في كل خطواتها، فنحن أيضاً كمواطنين نحب هذا الوطن وقيادته وشعبه لا نرتضي أن نروح إلى رقم ما بعد الرقم واحد بسبب تصرفات فردية وشخوص هم السبب وراء تأخيرنا عن موكب التقدم، بحريننا رقم واحد في قلوبنا ونريدها أن تكون رقم واحد في عملنا وواقعنا.