في كل بقعة في العالم تتواجد نساء اختبأن وراء ستار التعفف وقضاء حياتهن بالكتمان بعيداً عن الرياء والمظاهر، لذا نجد أروع النساء اللاتي يستحققن لقب «الأم المثالية» تزامناً مع مناسبة يوم الأم العالمي بعيدات عن منصات التكريم والأضواء التي تكشف قصص كفاحهن وإنجازاتهن العظيمة.. اخترن العزلة والابتعاد عن ضجيج الآخرين، فمثل هذه النماذج تتشحن بالصمت مدركات أن الله سبحانه قد كرمهن عندما خصهن بسورة كاملة في كتابه العزيز، وأن تكريمهن في مرتبة الأم الصالحة عنده سبحانه أسمى وأغلى من تقييم عباده لهن، وقد اخترنا في مقالنا هذا بعض النماذج منهن.
(1)
وهي في أجمل سنوات العمر أجبرت على الزواج من ابن عمها السكير، حطم طموحها عندما جعلها تترك دراستها وتتحول إلى ربة منزل، ثم بدأ يحطمها كامرأة عندما أخذ يمد يده عليها وعلى بناته وهو في غفلة السكرة، لم تنكسر ولم تيأس بل عمدت إلى زرع الطموح الذي اختطف منها في نفوس بناتها، حاولت أن تشغلهن عن منظر أبيهن السكير ببناء الأحلام الجميلة للمستقبل، قصرت في حق نفسها كثيراً لأجل أن تصرف عليهن، كانت تجعلهن يدرسن في غرفتهن وتجلس عند بابها المقفل في الخارج كالحارس، حيث تدرك أن والدهن لابد أنه سيأتي وهو مخمور ويدخل عليهن الغرفة لضربهن.
اختارت أن تتلقى الضرب بدلاً عنهن في محاولة لحمايتهن منه ليدرسن ويتفوقن ويجتهدن حتى أصبحن طبيبات رفعن رأس أمهن عالياً لاحقاً، كل التفوق العملي والاجتهاد والمراكز المتقدمة التي حصدنها لاحقاً جاءت من وراء امرأة عظيمة صبرت واحتسبت عند الله سبحانه وتخطت الحواجز بالحرص ألا يتأثرن بناتها بسلوك والدهن.
(2)
ترملت وهي في الثلاثين، واكتشفت أنها ستعيش طيلة حياتها بإعاقة بعد حادث أليم رحل فيه زوجها، اكتشفت أيضاً بعد أن فاقت من غيبوبة جعلتها حبيسة السرير بالمستشفى أن والدتها رحلت من بعده بأسبوع، لم تنطفئ بالأحزان التي حاولت النيل منها؛ بل جاهدت لأن تستفيق من غيبوبتها وتتخطى الإعاقة التي حصلت لها لأجل ألا تترك أبناءها لوحدهم، ثابرت لكي لا يشعر أبناؤها باليتم أبداً، عملت في ظروف صعبة رغم إعاقتها أمام تطفل البعض ومضايقاتهم.
ذات يوم قامت إحدى المشرفات بالمدرسة باستدعاء إحدى بناتها لسؤالها إن كانت تود الحصول على معونة الشتاء التي تقدم عادة للطلبة من عائلات الدخل المحدود أو الأيتام، فثارت وخاطبت إدارة المدرسة بالقول «إياكن واستدعاء بناتي مرة أخرى وإشعارهن أنهن يتيمات أو أن هناك فرقاً بينهن وبين بقية الطالبات.. هن في خير ولا يحتجن إلى شيء» وقالت لبناتها: «طالما أنا موجودة أنتن لا تحتجن إلى أي شيء، وإذا ما تم استدعاؤكن يوماً أخبروني وأنا سأتصرف معهن».
سخرت حياتها وضحت بها لأجل أبنائها وتجاهلت دعوات زواجها مرة أخرى لكي تربي أبناءها أحسن تربية، لم تقصر يوماً معهم رغم أنها كانت تعيلهم لوحدها وجعلت أبناءها يعيشون حياة أفضل من حياة ممن يمتلك أباً وأماً في حياته، كانت نموذجاً للقوة والصبر والتحمل لأبنائها ومصدر إلهام لهم لكيفية بذر صحراء الألم وتخطي حواجز الإعاقة والمرض بأزهار العمل والعطاء والحب، لذا فكل ابن لها تميز في مجال معين وهو يحمل شيئاً من طباعها الصلبة والطموحة.
(3)
طلقها زوجها بعد أن سلب منها أجمل سنوات حياتها وأموالها التي جمعتها سنين عديدة، وجدت أن أهم تحدٍ لها كيف ستصرف على أبنائها ليكملوا دراستهم، خاصة وأن أحدهم مريض ويحتاج لرعاية دائمة، قررت أن تعمل وتكمل دراستها، وحرصت على أن تنظم وقتها بين كل ذلك حتى حصدت الشهادة الجامعية التي مكنتها أن تتقدم وظيفياً أكثر، رغم كل الضغوط التي واجهتها، خاصة وهي تتابع علاج ابنها المريض وتربية أبنائها الآخرين، حرصت أن تتزود بالقرآن الكريم كسلاح لها في معركة حياتها، سخرت جزءاً من وقتها في حفظ كتاب الله وحرصت على تلبيه مصاريف أبنائها بما فيها الجامعية حتى تخرج منهم المهندس والطبيب والمحامي، أما حافظ القرآن فقد كان ابنها المريض الذي زرعت فيه بذور القوة والتفاؤل والتدين ليتخطى مرضه المزمن.
تحية لأم المعاق وللأم المطلقة ولأم الشهداء ولأم المرضى وللأم التي تلعب دور الأم والأب معاً في حياة أبنائها، تحية لمثل هؤلاء النساء اللواتي كمثل الجبل الثابت المقاوم لعواصف الألم بانتظار ربيع الأحلام وتحقيق الأماني، اللواتي قطعن مشوار حياتهن لوحدهن ورغم ذلك استطعن بفضل من الله سبحانه ألا تؤثر ظروفهن على أبنائهن، أوجدن بالمجتمع امتداداً لهن من خلال أبنائهن وحرصن على أن يكونوا نماذج معطاءة وناجحة وأمهات مثاليات عند الله سبحانه وتعالى.
- إحساس عابر..
لن يرقى الأبناء في أمة ما لم تكن قد ترقت الأمهات، فتشوا عن الناجحين في حياتهم ستجدون وراءهم أماً عظيمة ملهمة قد زرعت فيهم بذور الأخلاق والعلم وحسن التربية.