حين نعبر ردهات التيه، فإننا لا نتذكر إن كانت تلك المرة الأولى التي ندخل فيها السرداب المظلم، أم الظلام هذه المرة كان الأحلك؟ بتفسير آخر للواقع؛ هل يعيش العالم العربي حقبة لم يعشها من قبل من تفشي الاحتلال والإرهاب والسقوط بين براثن الخذلان والخيانة؛ أم إن طبيعة عصرنا المتقدم جعلت وقع المكونات السابقة أشد مرارة وضرواة؟
صورة مؤلمة تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي قبل عدة أشهر لرجل عراقي أشبه بالخارجين من كهوف العصري الحجري، كان ممزق الملابس شعره طويل ومنكوش ولحيته طويلة ومتسخة، يحيط بالرجل مجموعة من الأطفال يحملون دفاترهم الرثة، وهو جالس يحمل دفتر أحدهم ويكتب عليه بالقلم. تحت الصورة تعليق مؤثر بأن الرجل هو بروفسور الرياضيات العراقي (...)، وهكذا آلت إليه حاله.
سواء صدقت تلك الصورة أم كانت مفبركة، فإنها تعكس واقعاً حقيقياً لبلد كان يضج بآلاف العلماء في مختلف التخصصات، لكن النسبة الساحقة منهم إما اغتيلت أو هاجرت أو دفنت علمها وآثرت أن تأكل رغيف خبر يابس في الوطن عوضاً عن ارتياد المختبرات العلمية في الجامعات والمعاهد.
الصورة كانت تمثل كسر نموذج جديد للشخصية العربية بدأت تلوح في الآفاق، وأخذت تمتلك أرضية متواضعة تمكنها من التعبر عن نفسها، فأراد الآخرون لها أن تكون عبرة وعظة لمن لا يفهم أصول اللعبة ويتجاوز حدود الملعب. تم إخماد ذلك النموذج الذي كان يتمركز في العراق تحديداً واستبداله بشخصية العربي المتوحش المنبثق من كتب طائفته الصفراء لا من أوراق دفاتره المتجددة، وتم الترويج له بأنه امتداد لشخصيات ألف ليلة وليلة وشخصية علي بابا وهو حفيد الحجاج بن يوسف وتلميذ أبي مسلم الخرساني.
ومشهد تحطيم الآثار العراقية كان أداة أخرى من أدوات كسر الشخصية العربية. ففي الوقت الذي قد تنطفئ روح العربي وتضعف بسبب قسوة الواقع، بقيت آثار حضاراته المتعددة الصامدة تضمد روحه وتبعث الأمل فيه. فقد عاش أجداده في معزل عما يمتلك هو من تراكم معرفي ووسائل تختصر الوقت وتدخر العلوم والمعارف، وقد ارتقوا مرات ثم تعثروا أخرى لكنهم كانوا دائماً أحياء يتمددون آلاف المساحات خارج النقطة التي انهزموا فيها. حالة البعث التي تمثلها الآثار العربية كان يجب أن تتحطم أمام عيني الإنسان العربي بالنموذج الجديد الذي تم غرسه في الجسد العربي؛ لتنطفئ كل القناديل التي سيحتاجها العربي لترميم وطنه الذي يتهشم حوله ولا يملك، في هذه اللحظة، القدرة على لملمة الهشيم أو منع تبعثره وسط الريح العاتية.
المؤامرة التي تحيط بالإنسان العربي ، وقد صرت من أنصار نظرية المؤامرة، تستهدف بجرائمها المتجانسة محو تاريخه وتجميد مستقبله مرورا بتشويه تركيبته الإنسانية. «الإنسان المسخ الذي لا ماضي ولا مستقبل له» هذا هو النموذج العربي الذي هندسه الآخرون لنا ومزجوا المحاليل المختلفة لتنفجر مسفرة عنه. فهل نقبل بضياع هويتنا؟ وهل نملك أدوات المقاومة؟ وبأي شيء علينا أن نتمسك؟ وعلى ماذا نحافظ؟
لقد دخلنا في التيه الأكبر، فالمعاول التي تدمر حاضرنا هي إحدى مواردنا وإنتاجاتنا، حتى وإن كانت الأيدي التي تضرب بها أيد خارجية، والمكونات الفكرية التي نخشى أن تشوه هويتنا هي جزء أصيل من تراثنا وإرثنا، وقد تورطنا في الحفاظ عليه والدفاع عنه. واليوم هي سيف سلطه الآخرون علينا ليذيق بعضنا بأس بعض. الأصعب في مواجهة كل هذا الانهيار هو ما نعانيه من شعور بالضياع واللافهم وفقدان الثقة في الذات وفي التاريخ. لو كان ما يجري حولنا أمر واضح، ولو أننا نملك المعرفة الواثقة في تفسير ما يحدث لأمكننا التنبؤ بالنهايات والتحكم بها. لكننا قد صرنا تتقاذفنا الأيدي، وتعبث الأمواج بنا. وليس أمامنا سوى مراقبة حال الآخرين من ضعف وقوة وتنافس للبحث عن لحظة سلام يقذفون بها إلينا.