بحثت عنها في كل مكان فلم أجدها، أحياناً أجدها مختفية وربما توشحت بوشاح ليس لها، وربما تمللت أحياناً من التكرار أو الرتم الساكن، هي ليس لها ذنب، لكن هناك من أهملها وركنها جانباً فأصبح الإنسان في حالة ضياع وذهول بعد فقدان التواصل المعنوي وفقدان الأحبة والجماعة بسبب سوء الفهم.
أعتقد أنكم عرفتموها الآن؛ هي لغتنا العربية ومفرداتها، هي الحياة والحوار، هي القوة التي حيرت القوى الاستعمارية ودفعتهم لمحاولة القضاء عليها، حيث عملت على إفقاد الطفل العربي مفرداتها، فلم يبق في جعبته سوى 3000 كلمة مقابل 5000 كلمة للطفل الأجنبي، حسب دراسات متخصصين.
سابقاً كانت كتاتيب حفظ القرآن الكريم وألفية بن مالك 1000 وهي ما جعلت الطفل العربي سابقاً ثرياً بلغته معتزاً بعروبته ومتحدثاً محاوراً متمكناً، فساهم في فتوحات العرب من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، هذا هو العربي المسلم الذي حاول الاستعمار طمس هويته عن طريق المدارس الخاصة ونشر اللغة البديلة لطمس لغته وهويته.
هذا ما نراه واقعاً في حياتنا اليومية؛ حيث كثيراً ما نشاهد سيدة عجوز تخرج من غرفة الطبيب دون أن تفهم شيئاً من التشخيص، فتطلب من المساعدة ترجمة ما قيل لها وما هي علتها، وهذا ما أثار فضولي بسؤال لصديقتي الطبيبة حيث قالت؛ هذه طريقتي منذ 25 سنة في التعامل مع المرضى شيباً وشباباً، فسألتها وهل كل أهل البحرين يتقنون اللغة الإنجليزية؟ فأطرقت برأسها وقالت؛ أتصدقين.. لم يخطر هذا على بالي.
وكثيراً ما استغرب أثناء وجودي في ورشة عمل أو محاضرة حين تنقلب التدريبات والمناقشات والحوار باللغة الإنجليزية وبقوة وحماس واستعراض بالتواء الألسن للجميع، أما عن الجمعيات والأندية فلهم لمسات غريبة في فن الحوار والنقاش، كأنك في حرب داحس والغبراء، حيث المشاحنات واستعراض العضلاته، وهنا فقدنا اللغة العربية وحس الإنصات والاستماع، فقدنا فن الحوار الراقي والمناقشة الحرة السلسة..
ومع عصر التواصل الاجتماعي أصبحنا في زمن ما يمكن أن أسميه «الحوار الصامت» مما زاد الطين بلة بضياع اللغة ومفرداتها والحوار والتواصل الشفوي.
ذخيرتنا هي مفردتنا من اللغة، وما أتحدث عنه ليس قاصراً على عامة أبناء المجتمع؛ بل يطال الخاصة من المثقفين وأصحاب الشهادات العليا، بل إن النخبة التي يتوسم بهم أن يتبوؤوا أعلى المناصب لا يملكون الكثير من المفردات، إنما عدد محدود جداً ومكرر يجعل منهم أضحوكة أمام الجميع حتى لو تفوق وعلا شأنه في تخصصه.
في دراسة وتجربة واقعية طبقها الدكتور عبدالله الدنان على طفليه أولاً، لا يسمع فيها إلا الفصيح من الكلام ثم على رياض الأطفال في الكويت ودمشق، ويؤكد الدكتور الذي درس أصول التربية واكتساب اللغة ومهارات التعليم في بريطانيا ضرورة الاهتمام باللغة وتلقينها للطفل، وكان له مشاركة أيضاً في برنامج (افتح يا سمسم) الذي كان محاكاة للطفل ومساعد في التركيب والتحليل والقياس إلى حد فكر التربويون بتلقين الطفل عدة لغات، كما قامت (موسسة سدني في أستراليا) بتلقين الطفل سبع لغات في آن واحد.
نظرة سريعة على الطالب البحريني ونتائج الامتحانات الوطنية للغة العربية؛ هل تمكن طلابنا من المهارات الأساسية في الكتابة والقراءة والاستماع والإنصات وفن الحوار والتحدث؟ لا أعتقد ذلك..