فصلنا في الجزء الأول من مقالنا الطريقة التي تشكلت بها المجاميع الإرهابية التي تقمصت الدين لمآربها وكيف سخرتهم وروضتهم الصهيونية وبعض القوى العالمية لضرب الشرق الأوسط وتفتيته، وتالياً الشواهد والنتائج التي بدت واضحة للمراقب، حيث مكنت لقادة داعش زمام الأمر وحددت لهم أرضاً وأهدافاً متداخلة يصعب تنفيذها وتحريك شخوصها دون إشراف وتوجيه دقيق وتمويل مفتوح.
عمدت بزرعها أولاً وسط الثورة العارمة التي اشتدت في أرض الشام ضد ظلم طاغيتها، مما أخرج الثورة عن مسارها وعمت الفوضى ولم تستطع أن تميز في وسط نقع الخيل العدو من الصديق، فاختلط الحابل بالنابل وتشابكت الأهداف وضاع الحق وطاشت البوصلة، وتتجه الأنظار الآن لتقوية نظامه لعدم وجود بديل أمن يحقق مصالح إسرائيل وأمنها، وبعد أن أصبح جيشه النظامي وترسانته العسكرية في خبر كان ولا يمثل أي مصدر خطر لإسرائيل، فما أصاب الشام من خراب وتمزق وانهيار للنسيج الاجتماعي والبنية التحتية سيجعل ذلك النظام أو بديله ليس من أولوياته القضية الفلسطينية أو أية قضية عربية أخرى بقدر المحافظة على وجوده.
أما دورهم في الشأن العراقي فقد استطاع القائمون على التنظيم بالتخطيط له لاختراق العشائر وثورتهم السلمية في المحافظات السنية، وإخماد تلك الثورة التي امتدت لمدة تزيد عن عام دون أن تحقق شيئاً، وذلك لغطرسة المالكي وانغلاقه الطائفي، فتم بدخولهم تحويلها عن مسارها، وتطور الأمر إلى صدام مسلح ذهب ضحيته العشرات في أكثر من موقعة.
وتمدد ذلك التنظيم وتم توجيهه لإسقاط أكبر المحافظات السنية «الموصل» في يونيو الماضي بتشكيل لا يتجاوز في أحسن الأحوال خمسمائة مقاتل داعشي مقابل الـ70 ألفاً بكامل عتادهم الثقيل وعددهم، وبالاتفاق مع المالكي وقادة فرقه وألويته، والذي تصرف للمرة الأولى وانقاد كلياً لأمريكا على أمل أن تستمر بدعمها له في ولايته الثالثة دون الرجوع لأسياده في قم، وبسيناريو متقن أدى أول نتائجه بانهيار منظومة جيشه الطائفي بالكامل ثم استعيض عنه بفتوى المرجعية المعروفة «بالجهاد الكفائي» بقوات الحشد الشعبي، الذي ظاهره وقف الزحف صوب بغداد والدفاع عن المراقد وباطنه الإجهاز على أهل السنة وحرق الأرض من خلال أكذوبة «القضاء على داعش»، حيث تدور منذ أشهر وفي المحافظات السنية حصراً أشد المعارك، والتي يذهب ضحيتها الآلاف من الأبرياء جلهم من المدنيين الذين تقطعت بهم السبل وغدوا وقوداً لمحرقة فاقت محرقة وجرائم النازية.
كذلك نجح القائمون على ذلك التنظيم في لجم الحلم الكردي بالتعمد في تهديد أمنه، فتمكنوا من إجهاض مشروعهم الانفصالي بإعلان الدولة الكردية في مهده، والذي كان يمثل الشغل الشاغل لمسعود البارزاني وحزبه، بل وصل الأمر بتخليه عن فكرة سلخ كركوك العراقية النفطية عن الحكومة الاتحادية وضمها للإقليم الكردي، وتخليه عن أطماعه في ضم أجزاء كبيرة من أراضي محافظتي ديالى ونينوى، وأصبح يركض مهرولاً صوب أمريكا والدول الأوروبية متوسلاً الحفاظ على إقليمه من التفكك والزوال، وكل ذلك كان يقلق دوماً الحليف التركي الذي أسعد بما حققته له داعش، وللعلم فإن تركيا هي الدولة الإقليمية الوحيدة التي لديها تفهم كامل للسيناريو دون أن تقحم نفسها، وهي تتصرف وفق مصالحها دون الإخلال بعلاقاتها المتوازنة.
ومن قطاف ذلك التنظيم حرب استنزاف اقتصادية لدول المنطقة وحلب مواردها بحجة تشكيل تحالف دولي شكلي بحجة القضاء عليه، والذي جعلوا منه حجماً يفوق حجم القوات النازية الألمانية وحلفائها في الحرب العالمية الثانية بأضعاف.
وربما يلجئوا يوماً لتحريك تلك المجاميع وخلاياها النائمة إذا تطلب الأمر والتلويح بهم ضد أي نظام لا يستجيب لأجندتهم، ولا نستبعد أن يتمدد قريباً ذلك التنظيم إلى أرض الكنانة لإدخالها في دوامة وصراع طويل، ثم ستقوى كثيراً عند الصحراء الليبية وستمتد إلى صنعاء بحجة الوقوف بوجه الحوثيين لتتشكل كرة نار مستعرة، ربما لا قدر الله ستدحرج إلى قلب الجزيرة العربية، إن لم يتدارك أولي الأمر المخطط الرهيب الذي يحاك للمنطقة بأسرها، وكل تلك المحطات التي ستتغلغل إليها داعش الغاية منها تجزئة المجزأ بعد الإضعاف ثم التقسيم إلى دويلات وأقاليم هزيلة.
فما حدث من نكبات هي خطوات تمهيدية لهدف أعظم وهو الخليج بأسره، عليه يتوجب اليقظة ودق ناقوس الخطر والتحرك فوراً بإعادة النظر سريعاً بالتحالفات الهشة وبناء العلاقات الدولية على أسس صحيحة، فما يحرك العالم ويدفع به للحروب والتصادم أو السلام والتعايش لا يخرج عن الجانب الاقتصادي أو نشر الأفكار الدينية المتطرفة التي يقف وراءها بلا أدنى شك قطبين متطابقين نهجاً وسلوكاً هما إيران الصفوية والصهيونية العالمية، وكذلك يتوجب التفكير الجدي بنقل أرض المعركة اقتصاداً وفكراً ودهاء إلى داخل عقر دار تلك الدول التي تتربص بنا الدوائر، فكفانا دور المتفرج والمدافع فقد تمزقت خيوط مرمانا ووصلنا لمرحة أن الكرة لا تتجاوز حامي الهدف بل حتى تخترق مرماه المهلهل.
كذلك من ضمن المنظور في عمل هذا الفكر الإرهابي وهدفه المرسوم هو خلق فجوة ونفور بين الشعوب الإسلامية ومعتقدها وسلخها عن دينها، خاصة جيل الشباب، والدفع بهم إلى الانقلاب على ثوابت الدين ورسم صورة قاتمة سوداء للدين الإسلامي الأخذ بالانتشار في دولهم، وللحد من ذلك المد المتنامي وسط شعوبهم، حيث يتعمدوا بين الفينة والأخرى تسريب مقاطع فيديو هوليودي بنحر جنود وصحافيين أو إحراق الطيار الكساسبة حياً، ومن العجب العجاب أنه لا يوجد من بين الضحايا أي (إيراني أو صهيوني)، وليس آخرها إلحاق الدمار والخراب بآثار مدينة الموصل الضاربة في عمق التاريخ.
بعد أن عجزت كل التهم الإعلامية واستهزائهم وتشويههم لرموز الدين الإسلامي ونبيه من إيقاف الدعوة والإسلام المعتدل.
وإن كان لابد من معتقد تنتهجه شعوب تلك الدول الإسلامية فلا ضير أن يكون مجموعة من أفكار وخزعبلات وعويل وأساطير وضرب الخدود وجلد الظهور.
ولا ادعي أنني قد غطيت ذلك الموضوع الشائك، لكن بتواضع أردت تسليط الضوء على محطات ودهاليس مظلمة لذلك التنظيم الإرهابي ونهجهم ومن بيده الخيوط ويحركهم من وراء الكواليس.