قبل شهور ليست بالبعيدة حذر أمير الكويت من استمرار نمط الدول الرعوية في الخليج، وهو النمط الفريد الذي ابتكرته دول الخليج العربية بفضل ثرواتها النفطية الهائلة وتغيير نمط العلاقة التاريخية بين الحاكم والمحكوم قبل ما يقارب القرن.
لاحقاً اتخذت عدة دول خليجية قرارات جريئة ومازالت لإلغاء الدعم الحكومي عن الكثير من السلع والخدمات وكان الهدف من ذلك البدء في تصحيح خطأ تاريخي قامت عليه الدول الخليجية عندما قررت توفير خدماتها للجمهور إما مجاناً أو بأسعار زهيدة ولم تستثمر جيداً مواردها النفطية استعداداً لمرحلة نضوب النفط أو تراجع أسعاره أو ظهور مصادر طاقة بديلة أخرى.
ورغم أن تصحيح الدولة الريعية الخليجية مطلوب وإن بدأ متأخراً، إلا أن جدلاً مازال محتدماً بين ثلاثة أطراف، وهي؛ الحكومات، والنخب، والرأي العام المحلي بشأن التوجهات الاستراتيجية المطلوبة.
فمن جانب الحكومات فإنها ترى أن هناك حاجة لتصحيح نموذج الدولة الريعية ويكون هناك توازن مقبول بين الإنفاق والإيرادات ولكنها تخشى من اتخاذ إجراءات سريعة يمكنها أن تؤثر على هيكلية المجتمع والعلاقات المستقرة القائمة بين الفاعلين السياسيين في الأنظمة السياسية الخليجية. ولذلك فإن خيار الحكومات استراتيجياً على المدى البعيد هو التدرج في تغيير نمط الدولة الريعية.
أما النخب، فإنها ترى الوضع مختلفاً فهي تدرك جيداً إشكاليات الدولة الريعية، وبعض النخب لديها مصالح في إطار أنظمة الدولة نفسها وبالتالي هي تحارب كل محاولة لتغيير النظام الريعي لأنها ترى في عملية التغيير استهدافاً لمصالحها مباشرة. في الوقت نفسه فإن هناك فئات نخبوية أخرى تطالب بضرورة تغيير النظام الحالي اعتقاداً منها بأنه خيار استراتيجي من شأنه أن يحافظ على استقرار المجتمعات الخليجية ومن الممكن أن يكون حافزاً لنظام اقتصادي أكثر تطوراً.
نأتي إلى موقف الرأي العام المحلي من الدولة الخليجية الريعية، وهنا المعضلة الأساس، حيث يعتقد الرأي العام الخليجي أن حكوماته ملزمة بالإنفاق عليه في شتى المجالات، فهو مكفول من ولادته إلى وفاته من خدمات صحية متقدمة، ونظام تعليمي، بالإضافة إلى أنظمة ريعية تقدم له كفالة اجتماعية طوال حياته من سكن ومظلة تأمين اجتماعي متفاوتة، إلى خدمات ما بعد التقاعد.. إلخ.
بسبب تقادم الخدمات وتراجع أجيال خليج ما قبل الاستقلال والنفط، فإن الثقافة السائدة اليوم هي ضرورة استمرار الدولة الريعية، بل وصار التقصير في خدمات «من المهد إلى اللحد» نقصاً وعيباً وخطأ حكومياً يقتضي المحاسبة دون تفسير أو تبرير.
واستمرار هذا النمط من الثقافة سيكون عقبة وتحدياً كبيراً لمواجهة التداعيات الحالية والمستقبلية للدولة الريعية الخليجية.
والسؤال هنا؛ هل من المجدي تغيير الدولة الريعية أم الاستمرار فيها خليجياً؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه غداً..