عودني زميل عزيز على وصف كل فكرة خارجة عن المألوف، عند كل ضربة ناعمة لأحدهم، أقدمها في قالب فكاهي أو سياق إبداعي، وعند كل تعليق غير متوقع، أن يبعث لي؛ مقال اليوم «تحشيش» بعد بضعة هاءات يطلقها في مقدمة رسالته.
لقد افتقدت هذه الكلمة منذ فترة، ربما لأني لم أعد أتمتع بروح «التحشيش» السابقة، باختصار.. لقد أصبت بالممل.!!أصبح العالم مملاً حد الاكتفاء؛ تناحر لا متناه.. صراعات طاحنة ممتدة كالسرطان في أحشاء الأمة العربية.. وعلى الضفة الأخرى محاولات بائسة لتفسير وتحليل الواقع ومجريات الأمور.. وسيل من التوصيات التي لا تلقى لها سمعاً، واستشرافات لم ينظر إليها سوى أنها ضرب من السفسطة والتأملات الفلسفية.
أصبت بالممل لأن العالم العربي من حولنا لم يعد قادراً على الإنتاج ولا حتى الاستيعاب، لأن الإعلام العربي في غالبه أصبح يغيب الأخبار أكثر مما يلقي بالضوء عليها، أصبح يقتل فينا الإنسان من حيث لا يدري، لم يعد يقدم شيئاً سوى أنه يكرر نفسه؛ فالجميع في الإعلام العربي والفكر العربي والثقافة العربية -إلا من رحم ربي- يطرح موضوعات متماثلة باختلاف الكلمات وقليل من التفرد البائس في الرؤى، كارتداء بزات متماثلة كل ما يختلف فيها هو اللون أو قطعة إكسسوار براقة نوحي بها للآخرين بأننا لم نكرر أنفسنا، وأننا نظهر بتجدد، في كل يوم بقالب مختلف وشكل أكثر ألقاً.
العالم من حولنا مصاب بالرتابة في كل شيء، وفقد تلك الأضواء التي يمكن تسليطها على ما يستحق الحياة من أجله، فقد وجه كل ما أوتي من أضواء لمجموع الأسباب التي تستحق الموت والفناء، تستحق التدمير والحرق والنهب والسلب. إن أكبر أعدائنا اليوم إنما هو ضوء أحسبه بات وحشاً يطاردني وأطرده بتعويذة تستحضر الغموض الكامن خلفه وفي الوجه المظلم للقمر.
أتساءل فعلياً ونحن في خضم ثورة معلوماتية هائلة، لم يعد لأي شيء في هذا العالم قيمة تذكر سوى المعلومات، ما حجم المعلومات التي تملكها الأنظمة العربية؟ ما حجم المعلومات التي تتمتع بها مراكز البحث العربية؟ وأي نوع من المعلومات تلك التي تحشى بها العقول العربية؟ إن الوقوف على تلك الأسئلة سيكشف لنا لا محالة أن العالم العربي بأكمله، بكل ما أوتي من علم وفهم وتفسير ودراية، مازال يعيش في عتمة الجهل وغياهب الغموض.
في عالمنا العربي جل ما نملكه فعلياً، قليل صوت مخنوق، وكثير من اللطم، لنندب حظنا ونلعن كوننا في عالم عربي، تحاك ضده المؤامرات عياناً ليقف مكتوف الأيدي، وليس ثمة مواقف رسمية وغير رسمية يتخذها سوى ممارسة حق الجعجعة بخطابات واستنكارات وإبداء قلق، وتحذير ما تلبث أن تذهب بذكراه رياحنا المغبرة.
نتساءل عن ضخامة تلك الحروب الموجهة، وننظر لصنيعها ونتائجها كالطفل الذي يدهشه تراقص الدمى في مسرح العرائس، في غفلة منا بأننا لم نعد نتجاوز تلك الدمى. باعتقادي فإننا شعوب بقدر ما أسهمت ثوراتها الأخيرة البائسة وفوضاها المصنوعة بجعل الجميع يتحدث في السياسة ويتصرف وكأنه فاعل حقيقي مؤثر فيها، بقدر ما نعاني من سطحية التفكير ومحدودية الأفق، بقدر ما نحن نكون مكبلين وموجهين بوعي أو لا وعي.
لعل من المهم الوقوف عند الأسباب التي جعلت من العرب عجيناً واحداً على شاكلة واحدة، تجمع أغلب أسباب الضعف والضياع والتسطيح والخيبة. لاشك بحجم المسؤولية الملقاة على المجتمع، الإعلام، المؤسسات التعليمية، في صناعة العقول، في صناعة الوعي واللاوعي، وقد تم تصنيعنا في هذه البلاد العربية وفق ثقافة الخوف والضعف ضمن سياسات تخويف وإضعاف أغلبها غير مباشرة، أديرت بمحركات خارجية واستسلام ذاتي إنما هو انعكاس لخنوع أزلي.
عندما نجد الإعلام الغربي كيف أنه ذراع سياسية مثلى، بل كيف أنه دبلوماسي ممثل عن خارجية دولته، جندي في الثكنة، ونرى عظمة ما يؤديه من أدوار بحروبه الإعلامية والفكرية والنفسية الطاحنة وما شابه، ندرك تماماً أن إعلامنا لا يعدو على كونه «مدمناً» اعتاد تعاطي الدم وترويجه، حتى أصبح الدم العربي سلعة عربية بامتياز.
أصبح فكرنا ملوثاً.. عقلنا لا يترجم الأمور إلا وفق المنظور الضيق للإعلام.. المجتمع.. المؤسسات التعليمية؛ فالإعلام يؤكد ضعفنا يومياً، المجتمع يؤكد لا مبالاته وجعجعته التي لا تشي إلا باستسلام لا نهائي وانتظار للموت بصدر عار، ليس شجاعة منه وإنما عجز عن حماية نفسه والذود عنها، أما مؤسساتنا التعليمية فلطالما صنعت منا أبطالاً ورقية من سلالات ورقية، فما نلبث أن نقع في مصيبة حتى هرطق أحدنا ببطولات الماضي المزعومة، وطالب حالماً باستعادة الماضي الجميل واستحضاره، ذكرى نتعاطاها كالأفيون نسكن بها أوجاعنا وخيباتنا المتتالية، لأننا باختصار عظماء كما علمونا في مدارسنا، والشاهد على ذلك عظمة خيباتنا المتلاحقة التي أسهم في غرسها فينا بتبلد أولئك المسؤولون عن صناعة الفكر والثقافة في بلادنا.
ولذلك.. فإنه في زماننا هذا إذ نطالب بحقوق الإنسان باعتبارها حجر الأساس في تنمية المجتمعات «الديمقراطية»، فإن أول ما نتطلع إليه مراقبة الحق الفكري حتى لا يتعرض للرهاب والإرهاب، فلعله الخطوة الأولى على طريق الخلاص المنشود.
- انفجار النبض..
زميلي العزيز.. أنتظر بفارغ الصبر رسالتك «تحشيش»؛ لإنقاذ آخر ما تبقى من أمل البقاء، على أمل ألا أكون خدعت أو خادعت نفسي بصنف مغشوش.!!