لم تكن إيران طوال العقود الثلاثة ونيف الماضية مجرد لاعب احتياط في استراتيجية السياسة الدولية في الإقليم؛ بل كانت عنصراً رئيساً وفاعلاً في كل الأحداث والمخططات السياسية الدولية في المنطقة، وهذا ما أعطاها القوة للدفع بمشروعها إلى الأمام، حيث لم تجد القوى الدولية، ومنها الولايات المتحدة في المشروع الإيراني ما يتعارض مع مصالحها الاستراتيجية، إن لم يكن مساعداً لها.
لهذا لم تقف هذه القوى بشكل حقيقي في مواجهة المشروع الإيراني الذي ازدادت الحاجة إليه بعد حرب الخليج الثانية 1991، وما تبعها من حروب وأحداث أخرى كحادثة 11 سبتمبر2001 وغزو أفغانستان والعراق والحرب اللبنانية - الإسرائيلية، إضافة لدورها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي كان يشهد بين حين وآخر تصاعداً، حيث لم تمر حادثة أو حرب في المنطقة إلا وكانت الحاجة الغربية لإيران تزداد، وذلك نتيجة لتأثيرها المباشر على بعض أطراف الصراع، وكلما زادت الحاجة لها كلما زاد نفوذها توسعاً واستحكاماً، مما أدى لإصابة كثير من أنظمة المنطقة بالإحباط واليأس من احتمالية تغيير الموقف الغربي من التمدد الإيراني.
إلا أن هذا اليأس لم يكن ليمنع اندلاع الثورات العربية التي أدت إلى فوضى عارمة في النظام الإقليمي، وهو ما كشف عن تباين المواقف الاستراتيجية للقوى الدولية الكبرى من تلك الثورات، حيث سعى كل طرف أن يستغلها لإضعاف الطرف الآخر من أجل إعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة يتلاءم ومصالحه.
من هنا وجدت بعض الدول العربية التي تخطت موجة الربيع العربي الفرصة سانحة للقيام بإعادة بناء تحالفاتها مع القوى الكبرى كفرنسا وبريطانيا الصين وروسيا وألمانيا، وهي الدول التي أصبحت تنافس أمريكا على النفوذ في المنطقة. في خضم هذا المعترك بقيت أمريكا تنظر لإيران على أنها بيضة القبان من خلال ما تمتلكه الأخيرة من نفوذ وما لديها من تحالفات وعلاقات قوية مع جماعات ودول يمكن من خلالها بناء منظومة إقليمية جديدة تحفظ للاستراتيجية الأمريكية قبضتها القوية على المنطقة، لهذا حاولت إيران بعد وصول الأخوان المسلمين إلى السلطة في مصر وتونس وليبيا وتصاعد مدهم في باقي دول المنطقة، إضافة إلى تحالفها مع النظام السوري والعراقي، سعت لبناء محور جديد في المنطقة على أمل أن تنضم إليه لاحقاً بعض الدول الخليجية، غير أن تطور الأحداث أضاع عليها بناء هذا المحور، حيث استطاعت المملكة العربية السعودية أن تحزم أمرها بعيداً عن الموافقة الأمريكية وتتدخل لإحباط المؤامرة في البحرين وتفوت الفرصة على إيران.
ثم جاءت الثورة السورية لتدق أول مسمار في نعش المشروع الإيراني، تبعها بعد ذلك قيام ثورة العرب السنة في العراق لتزيد تعقيد الأمور، ثم سقوط حكم الأخوان في مصر، حيث كانت تعول عليه كركيزة أساسية لبناء محورها الجديد، وبسقوطه انتهى الأمل في بناء المحور المؤمل، ثم تتابعت الأحداث حتى جاء الحدث الأبرز باستيلاء «داعش» على مناطق واسعة في العراق ليغير مسار الأحداث من جديد ويعيد عقارب الساعة إلى الوراء.
وفي خضم الدفاع عن سياسة بلاده تجاه الأزمة السورية صرح المستشار العسكري للمرشد الأعلى في الجنرال يحيى رحيم صفوي في أيار 2014: «حدودنا الغربية لا تقف عند شلمجة (على الحدود العراقية غربي الأحواز) بل تصل إلى جنوب لبنان، وهذه المرة الثالثة التي يبلغ نفوذنا سواحل البحر الأبيض المتوسط «، وكان ذلك تعبيراً عن مدى الغرور الذي بلغته إيران نتيجة ما تحقق لها من توسع ونفوذ بفضل تحالفاتها مع النظام السوري وبعض الجماعات والمليشيات المسلحة في المنطقة، إذ كان التغاضي الأمريكي عنه بمثابة المظلة التي وفرت لإيران هذا النفوذ.
لكن لم تمر أسابيع على ذلك التصريح المتعجرف حتى سقطت الموصل بيد تنظيم «داعش»، الأمر الذي وضع إيران وحلفاءها أمام تحديدات جديدة تهدد بخطر انهيار كامل لمشروعها، وأدخل المنطقة في نفق جديد وفرض على القوى الدولية الكبرى إعادة النظر في استراتيجياتها. فبينما كانت إيران تحاول الحفاظ على توازن القوى في الجبهة السورية بالاعتماد على دعم روسيا والصين، وتسعى لإطالة أمد الحرب على أمل أن تستطيع أمريكا إيجاد مخرج سياسي للأزمة؛ أصبحت الجبهة العراقية تزيد من الضغوط على طهران التي خسرت أغلب أوراقها، ولم يتبق أمامها سوى خيار اللجوء لورقة «الحوثي»، وقد ذهبت إلى استخدام هذه الورقة مستغلة الصراعات على الساحة اليمنية والخلافات الإقليمية من جهة، وانشغال التحالف الدولي بالحرب ضد «داعش» من جهة أخرى، سعياً منها لفتح جبهة جديدة تخفف فيها الضغوط عن نفسها على الجبهتين السورية والعراقية.
وقد ظنت أنها بذلك قد حققت جزءاً من مرادها، فراحت أبواقها الإعلامية تصرح بفرح وزهو بأن إيران تتحكم بأربعة عواصم وأنها تحاصر الخليج والجزيرة العربية، غير أن ما غاب عن ذهن المخطط الإيراني هو أن القبضة الأمريكية أصبحت مترهلة ولم تعد قادرة على منع الدول الخليجية من استخدام ما تراه مناسباً لتشكيل ضغوط على إيران لتزيد أزمتها، لهذا حين قررت الدول الخليجية استخدام ورقة النفط في مواجهة الحرب الإيرانية ضدها، وجدت أمريكا، وإن كان هذا الأمر مؤلماً لها من الناحية الاستراتيجية، أنه يمكن قبوله تكتيكياً لاستخدامه ضد روسيا، وهنا وقعت إيران بالفخ؛ فتحول «الحوثي» من ورقة رابحة إلى كارثة زادت في أعبائها.
ما من شك أن انخفاض أسعار النفط في ظل الاستنزاف المتزايد على الجبهتين السورية والعراقية، مع الإخفاق في البحرين واليمن والفشل لتشكيل محور إقليمي كانت تسعى له بمشاركة بعض الأخوان؛ جعل إيران تتحول من موقع الهجوم إلى موقع الدفاع على الصعد السياسية والعسكرية، ومن الدلائل على ذلك ما صرح به قائد القوة البرية للجيش الإيراني العميد أحمد رضا بوردستان بأن «القوات العسكرية الإيرانية قد رسمت خطاً أحمراً على مسافة 40 كم داخل الأراضي العراقية (لداعش) فيما لو تجاوزت هذا الخط فستواجه رداً ساحقاً من قبل القوات المسلحة الإيرانية «، بطبيعة الحال هذا التصريح يناقض تصريح الجنرال يحيى صفوي السابق الذكر، ولكن كيف يمكن فهم هذا التصريح؛ هل هو انكسار في الجبهة الإيرانية أم محاولة لإعادة الانتشار للحفاظ على الخطوط الأمامية التي بنتها إيران خارج أراضيها على مدى العقود الثلاثة؟