ماذا يجري في اليمن؟ السؤال الذي يشغل الجميع. كيف تطورت الأحداث، وكيف تقلبت مراكز القوى بهذه السرعة في هذا البلد؟ الهاجس الذي يقلق الجميع. وإلى أين ستنتهي الأوضاع؟ أسئلة لن يزعم مراقب أنه يملك الإجابة عنها أو مقاربة مأمونة لشرحها. ويبدو الحديث فيها ضرباً من «نزوات العجلة» التي قد تورد صاحبها مزالق الخطأ في التعليل والتحليل والتنبؤ. أكثر التعليقات اليمانية طرافة حول الفراغ السياسي الذي نتج عن استقالة الحكومة اليمنية ومن ثم استقالة الرئيس اليمني وعجز مجلس النواب عن الانعقاد وخلو كراسي الحكم من شاغليها -حتى لحظة كتابة المقال- هو إحساس اليمنيين الفاتر بأن الفراغ السياسي مؤثر في العلاقات الخارجية والدبلوماسية فقط؛ أما حياة الشعب اليمني فقد اعتادت لعشرات السنوات أن تسير نفسها بنفسها دون حكومة ودون دولة لأنها لم تكن موجودة أصلاً، وإن وجدت على المستوى الفيزيقي، فهي فارغة على مستوى التأثير الشعبي. لا نستطيع الجزم في تحليل ما يحصل في اليمن إلا أن اليمن يثبت كل يوم أنه خارج مفهوم «الدولة»، وأنه بلد مستباح الثروات لم يعتلِ سدة الحكم، وأنه بلد مخترق بامتياز من قبل قوى إقليمية متصارعة تحرك خيوط لعبة غير احترافية في أرض تفتقر لإشارات مرور الحراك السياسي، وشعب لا يعد طرفاً في المعادلة؛ الأمر الذي جعل جميع الأطراف الإقليمية اللاعبة غير قادرة على ضبط إيقاع حركة عناصرها وسط هذه الأوضاع «المائعة». يكفي أن نشير إلى تطور التدخلات الخارجية بمباراة المكالمات المسربة، فالحوثيون سربوا مكالمة بين الرئيس عبدربه منصور هادي ومدير مكتبه أحمد عوض بن مبارك تبين موقف الرئيس من القوى السياسية وكيفية إدارته للصراع معها. جموع «الحوثة» الخارجين من مغارات الجبال وسفوحها يمتلكون أجهزة تنصت وهم قادرون على التجسس على رئيس الدولة وكبار موظفيه!! إنها أصابع الدعم الإيراني وآثار أيدي حزب الله المدربة. يليها مباشرة تسريب قناة «الجزيرة» لمكالمة تجميع بين الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح وأحد المسؤولين الحوثيين تكشف عن حجم التنسيق بين الطرفين وفاعلية إرشاد صالح وخدماته اللوجستية لهم. وتلك بصمة خليجية ترصد التحرك الإيراني ومن يتواطأ معه. حرب التسجيلات المسربة مكنت كل طرف «الخليجي والإيراني» من تسجيل ركلات ترجيحية متساوية في مرمى الآخر، وتلك هي مشكلة اليمن الأزلية. الشعب اليمني لم يتمكن بعد من الشروع في بناء دولته الحديثة خارج الصراعات الإقليمية، المجتمع اليمني المدني ممثلاً في الأحزاب والتنظيمات السياسية والجمعيات الأهلية ووسائل الإعلام الخاصة مازال هشاً ومازال عاجزاً عن أن يكون طرفاً فاعلاً وحاسماً في العملية السياسية. فمن أجل أجندات الربيع العربي سمح للمجتمع اليمني المدني أن يحتشد وينتفض ضد حكم علي عبدالله صالح وتم منح إحدى فتياته جائزة نوبل للسلام، ثم حين غابت الأجندة الدولية وتصارعت الأجندة الإقليمية على الكعكة المحلية قفز الجميع على إرادة المجتمع المدني وتناوبوا على الوثوب والسقوط. قد يكون من الآمن القول بأن اللاعب الإيراني قد تمكن في هذه الجولة من تجاوز الخليجيين بأشواط بعيدة، وأن الثعلب الأمريكي يحدق في المشهد بدهاء ومكر ينتظر الطرف الفائر كي يرجح أحد بدائله، إذ من المؤكد أنه وضع تصوراً كاملاً وخيارات متعددة للتعامل مع الطرف الغالب بما يحفظ مصالح الأمريكان بشكل دائم في اليمن. وتجدر الإشارة إلى أن السفارة الأمريكية في صنعاء يتم حمايتها من قبل عناصر الحوثيين الذين يهتفون في كل تجمهراتهم «الموت لأمريكا الموت لإسرائيل!!». من جهة أخرى ليس من تفسير «راهن» لتهاوي الدولة السريع في يد الحوثيين سوى هشاشة بنية الدولة نفسها التي تأسست على الفساد ونهب المال العام وعلى تعدد الولاءات في الجيش والشرطة ومفاصل الدولة المدنية كلها، وهي البنية التي يحرص كل فصيل يقترب من السلطة على الحفاظ عليها. الأسابيع القادمة حاسمة في تاريخ اليمن، وسيكون اليمن أمام السؤال المصيري الأكبر في تاريخه الحديث؛ هل تستطيع القوى اليمنية الحالية والمجتمع اليمني الحالي التفاهم على صيغة بناء الدولة اليمنية الحديثة؟ أم أن مكونات الدولة اليمنية «الجغرافيا والشعب» مازالت من الهشاشة والتفكك ما يجعلها أضعف من مواجهة التدخلات الخارجية التي ستبقى تلعب بالمكونات السياسية وتغلب بعضها على بعض وترجح بعضها على الآخر؟ جزء من الحل «المتخيل» هو اقتحام لاعب إقليمي جديد يتحرك خارج معادلة المصالح الآنية في اليمن، طرف مثل «مصر» يستشعر خطر سيطرة أي طرف على اليمن وتجيير مواردها لمصالحه الخاصة، طرف يدرك خطورة الاستحواذ على مضيق باب المندب الذي هو البوابة الخلفية لقناة السويس. في ظل الهشاشة الحالية في الدولة اليمنية يحتاج اليمنيون إلى راع إقليمي ومبادرة خارجية تغلب لغة الأمن القومي العربي، ومستقبل الشعوب العربية ومواجهة الأجندات الخارجية والاختراقات الغربية والمحاصصات الإقليمية، فهل سيهب القدر اليمن تدخلاً مصرياً آخر يخرج اليمن من نفق تاريخي مظلم إلى مستقبل تاريخي يلوح النور في آخر أطرافه؟