هناك مبدأ غفل الناس عنه عند تصفح بعض المواقف في هذه الحياة، وهو التركيز على السبب الذي أدى إلى نتيجة وليس التركيز على النتيجة.
بمعنى؛ عندما يقوم أحدهم بكسر قفل أحد الأبواب أمامك لا يمكن محاسبته ولومه ومعاقبته قبل معرفة السبب الذي دفعه إلى ذلك، فقد يكون خلع الباب لأنه أغلق على أحد الأطفال أو أن هناك حالة طارئة في المكان لا تحتمل الصبر، أو أن هذا الشخص وجد نفسه «محشوراً» فأراد الخروج بعد أن يئس من طلب المساعدة وغيرها من أسباب عديدة، لذا فدائماً عند الشروع في النظر إلى قضية ما لابد من البحث عن أسبابها قبل التمعن في أبعادها ونتائجها على المجتمع، ولعل هذا ما يمكن قوله عن حقيقة أحداث فرنسا الإرهابية الأخيرة.
كل إنسان عاقل ضد الإرهاب وضد قتل الأبرياء والتخريب، وهذا كلام لا غبار عليه، لكن عندما تشعر بعض الأطراف بالعدائية تجاهها وأنها منبوذه هنا، قد تتوغل بداخلها أفكار تطرفية متشددة تدفعها إلى مهاجمة المجتمع وإيذاء أفراده، وهذا ما يحصل حالياً في المشهد الفرنسي مع الإرهاب، كما أن ما قامت به جريدة «شارلي إيبدو» أوصل رسالة للأمة الإسلامية كافة بأن فرنسا لا تحترم الإسلام ولا المسلمين ولن تحترمهم أكثر خلال الفترة القادمة.
أوصلت رسالة مفادها عندما يخطأ مسلم واحد فإن كل المسلمين مخطئون، وعندما يؤذي مسلم واحد فذلك يعني أن كل المسلمين مؤذون، رسالة مفادها أننا نحاسب الإنسان على دينه لا على فعله، نحاسبه بعنصرية ولا نحاسبه بمنطق وإنسانية، فليس من المنطق بالمقابل عندما يقوم مواطن فرنسي بالاعتداء على إحدى الممتلكات في البحرين، على سبيل المثال، أن نحارب كل الفرنسيين، بل وأن تنشر جرائدنا المحلية رسوماً معادية لفرنسا ونظامها.
ما حصل في فرنسا علاقة طردية؛ فأحد أسباب مهاجمتها هو محاربتها للإسلام والمسلمين، لذلك فلا يمكن أن نستغرب عندما تأتي نتيجة كل ذلك بقيام بعض الجماعات الإرهابية باستهدافها للقيام بأعمال لا تتماشى، لا نقول مع مبادئ ديننا الحنيف الذي يمنع الاعتداء على الآخرين، بل مع أبسط مقومات الإنسانية بعدم قتل النفس وإيذائها، فأنت لابد أن تطالع الأسباب قبل النتائج؛ فالنتيجة التي وصلت إليها فرنسا تقف قبلها أسباب عديدة منها طريقة معاملة المسلمين فيها عندما يقوم طرف باستفزاز طرف آخر فلا يمكن لوم الآخر على ما سيفعله، فليس الجميع سواسية في رجاحة العقل وضبط الأعصاب وليس الجميع بنفس الحكمة.
هناك إهانة وسوء في التعامل يمارس مع مسلمي فرنسا، وهناك محاربة للمحجبات وتمييز ديني رهيب يجري في فرنسا، وهناك عدم احترام لمشاعر المسلمين والكثير من الأمور التي تعكس أن فرنسا لا تحترم الإسلام رغم أنه بالمقابل الدول العربية والإسلامية تحترم علمانية فرنسا وتحترمها كدولة ذات أنظمة وقوانين وسيادة مستقلة، رغم كل ما فعلته بالجزائر ورغم المليون شهيد ورغم ما مارسته في الدول العربية التي احتلتها قبل سنين مضت.
إذاً ما صدر من تصرف اثنين أو ثلاثة من المسلمين وهو تصرف إرهابي لا يعكس المبادئ الحقيقية للمسلمين، ولا يرضى عنه جميع المسلمين الذين يفهمون أركان الإسلام الصحيحة ومبادئه، فهذا لا يعني بالمقابل أن أقوم وأهين جميع المسلمين واستفز مشاعرهم بالإساءة إلى الإسلام ورسوله عليه ـفضل الصلاة والسلام، فمن يقوم بالإرهاب يمثل نفسه لا يمثل المسلمين كافة، كما أن من يعارض فرنسا يمثل نفسه وأجندته ولا يمثل كل الفرنسيين ولا يعكس أن جميعهم يعارضون الحكومة الفرنسية.
جيل المسلمين الحالي لديه قناعة راسخة بأن فرنسا دولة لا تراعي المسلمين، وبعدما قامت به جريدة «شارلي إيبدو» ترسخت لديه قناعة أكثر أنها تعمد إلى استفزاز المسلمين وإهانتهم وأنها لا تحترم الخطوط الحمراء للإسلام، وهذا يولد مواقف عدائية تجاهها أقلها إبداء الاستياء منها ومعارضتها.
إن كانت فرنسا دولة قوانين وأنظمة فعليها اليوم ألا تضع نفسها في وجه المدفع حتى لا تتباكى غداً على مهاجمتها، ولابد أن تعيد صياغة تشريعاتها بما يتناسب مع احترام جميع الأديان لا مع التمييز ضد الأديان بحيث تقبل إهانة كرامة المسلمين، وبالمقابل لو تجرأ أحدهم وأهان طوائف أخرى بالمجتمع كاليهود والمسيح لقامت القيامة.
المشهد الفرنسي الحاصل يؤكد أهمية تغيير طبيعة تعامل فرنسا مع المسلمين وضرورة إعادة النظر تجاه خيار الديمقراطية الذي تنتهجه، وإن كانت تود فعلاً أن تكون دولة ديمقراطية متحضرة؛ فالدول الديمقراطية تتيح حرية الأديان ولا تهين أي طائفة أو انتماء مع إيجاد تشريعات تحفظ حقوق جميع الطوائف والأديان في المجتمع الفرنسي دون تمييز ودون اضطهاد وتعدٍّ على هذه الأديان، فرنسا اليوم تضم أكثر من 6 ملايين مسلم حسب إحصائيات جريدة لوموند «2007» ومؤسسة ايبسوس موري سنة 2011، حيث يعتبر الإسلام الدين الثاني في فرنسا.
كل الأديان السماوية لها خطوط حمراء، وكل الأنبياء والمرسلين لهم الاحترام، وجميعنا كبشر نشترك في مبادئ الإنسانية ونختلف في الأديان والطوائف، وهذه هي فطرة الحياة ونظامها، والاختلاف لا يعني أن تقوم بعض المؤسسات الإعلامية في دول ديمقراطية ومتحضرة وذات قوانين وتشريعات بإهانة دين لأمة كبيرة تتواجد في جميع القارات بسبب جريمة قام بها عدة أشخاص فهموا الإسلام بشكل خاطئ.
- إحساس عابر..
رب ضارة نافعة.. رغم فاجعة ما قامت به صحيفة «شارلي إيبدو» إلا أن فضول العالم سيثار نحو الإسلام والمسلمين والبحث في سيرة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، نحن أمة لا نخاف على الإسلام، فللإسلام رب يحميه وللمسلمين رب يحميهم وللقرآن الكريم وسنة رسولنا الأمين رب يحميهم، وأمة الإسلام قد تخسر ولا تنتصر، لكن الإسلام محفوظ دائماً ومنتصر لأنه ليس من العباد بل من رب العباد سبحانه، يكفي فخراً أن الإسلام جاء كخاتمة للأديان، وأن رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام كان خاتم الأنبياء والمرسلين وقدسيته وكرامته محفوظة عند رب الناس لا الناس.