ليس الموضوع عادياً، فالمأساة لم تقف عند مصانع ومراجل ومباخر متهالكة وقديمة في إحدى الشركات ولم تتوقف عند إهدار وضياع الملايين، ولم تتوقف عند الإهدار المالي والتلاعب الإداري، فكل شيء ممنهج ومبرمج ومتعمد تقوم عليه «شلة» لا تقبل الآخر ولا تفتح المجال إلا لعوائلها وأصحابها؛ موظفين وعمال ومقاولات وشركات صيانة وموردين، إلا أن المأساة تجاوزت إلى ما هو أخطر، حيث وصل ضررها الأرض والعباد، وذلك عندما لم تفكر الشركة ولن تفكر في إدراج مشروع الحد من انبعاثات النيتروجين في خطتها الآنية ولا المستقبلية، ناهيك عن الأضرار التي تسببت بها هذه الانبعاثات لعشرات السنين، هذا المشروع كان يجب أن يكون عملية متكاملة مع المصنع منذ بدايته، وكما تفعل الدول الأخرى عند إنشاء المصانع، فكيف إذا كانت هذه المصانع من أهم مصادر التلوث البيئي، فهذه الانبعاثات تعادل تشغيل 3 ملايين سيارة، فالمشكلة ليست هينة ولا لينة، بل هي مشكلة بيئية خطيرة، تدفع ثمنها أجيال وأجيال.
وهذا أمر مفزع ومخيف؛ حين نتصور هذه الانبعاثات والتي لا نعلم كثافتها وكميتها، فلا خبير بيئي ولا فريق طبي عندنا قام بدراسة أو أجرى اختبارات، أما آثارها وأضرارها فيمكن تقييمها من إحصائيات وزارة الصحة للمرضى من الفشل الكلوي والتليف الكبدي وأمراض السرطان والربو، والتي انتشرت في السنوات الأخيرة بشكل مرعب، وكل هذه الأمراض انتشرت بفعل الملوثات، خاصة تلوث الهواء، فكيف إذا كانت تقذف كل يوم أطنان من السموم التي تتراكم وتتفاعل فتنزل علينا على هيئة ضباب دخاني وغبار فيه من العوالق والشوائب التي تدخل الجهاز التنفسي وتلتصق بكريات الدم، والتي تعجز عنها دفاعات أجهزة المناعة والغدة الدرقية حتى تصبح نشطة أو يصيبها الخمول أو «تتسرطن» من شدة الإعياء، وهذه الانبعاثات تدخل في كل أنف وبلعوم، فليس لها قلب ولا ضمير للتمييز بين صغير وكبير، ولا تعرف مجاملة ولا محسوبية، فالفقير والغني أمامها سواء، والعلم مع الأسف لم يستطع معالجتها، إذاً لا بديل للهواء ولا ينفع معه تجفيف ولا غسيل، لأن المأساة في مصنع نفط متهالك يقذف من الأبخرة والغازات أطناناً وأضعافاً.
أما عن تأخر الشركة نفسها في تنفيذ أحد المشاريع الذي كان من المقرر الانتهاء منه في 2004، إلا أن الشركة ستنفذه في 2020، فما هي أسباب التأخير؟ هل بحث ديوان الرقابة أسباب ذلك؟ هل أجرى مقابلات مع المسؤولين وبحث في الأوراق؟ فربما تكون الأسباب عدم توفر الميزانية أو عدم وجود شركة ذات صلة وقرابة، أم أن الشركة التي ستتولى المشروع قيد الإنشاء، أو أن الشركة الأجنبية الصديقة مشغولة، كل ذلك احتمالات وخيالات.
قد يتأخر مشروع سنة أو سنتين أو يتعثر أو ينفذ وبه عيوب وأخطاء، ولكن لم نسمع بمشروع يتأخر عشرين سنة، فهل هذا مشروع مركبة فضاء أو مفاعل نووي أو سكة حديد تربط بين البحرين والصين؟ فلعل أسباب التأخير تكون معقولة ومقبولة، ولكن أن يتأخر مشروع لا نعتقد أنه أكبر من إنشاء مصنع تكرير أو محطة كهرباء، فهذا يخفي خلفه أسراراً، ويكشف أن الشركة بحاجة إلى إعادة إنشاء وصياغة، شركة بحاجة إلى تجديد الطواقم التي تدير الإدارات والأقسام، وكان يجب أن يحدث هذا منذ زمن طويل، وذلك بعد أن تردى حال الشركة وأصبحت بلا إيرادات ولا مردود، كأنها شركة أنشئت لإعاشة الموظفين وترفيههم وتعليم أبنائهم وتقديم الرعاية الصحية والاجتماعية لهم، إضافة إلى خدمات إسكانية وسفرات ترفيهية.
فلا تستغربوا إن جاء تقرير السنة القادمة والحال كما هو، وذلك حين تكون هذه الشركة شركة عائلية متوارثة، لا يهمها إن نفثت مراجلها السموم في سماء البحرين، ولا يهمها إن تأخرت المشاريع قروناً، كما أن الشركة اعتادت على التقارير التي لا يتعدى مفعولها إلا ساعة النشر وبعدها تصبح مطوية ومنسية، كما حدث في 2011، عندما تركت المصانع تهدر دون إشراف ولا مراقبة، ثم عادوا إليها كما كانوا وأحسن مما كانوا وواصلوا المشوار كما بدؤوه.