لو تطرقنا لكل تفاصيل تقرير ديوان الرقابة المالية وكل التجاوزات والملاحظات الواردة في التقرير، لاحتجنا إلى أن تكتب ملاحق أكبر من الملاحق التي صدرت تحمل تفاصيل التقرير. أعتقد أن تجاوزات الوزارات أو الوزراء أو الشركات أو الهيئات، إنما في أغلبها كان بسبب عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، أو أننا كدولة أصبحنا أيضاً نتعامل من تقرير ديوان الرقابة بشكل محبط بعض الشيء حين نرى المخالفات بشكل آخر، فتراها الدولة بطريقة من هو صاحب المخالفة ويتبع أي جهة.
وإن كان هذا صحيحاً فهو إخلال بمبدأ المحاسبة، فننظر إلى الأشخاص قبل المخالفة، إن كان ممن نحب ونرضى عنهم نغض الطرف بعض الشيء عن المخالفات، والعكس، وهذا لا يكرس مبدأ المحاسبة الحقيقية.
كان موقف صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد -حفظه الله- في العام الماضي حين صدر تقرير الرقابة المالية إيجابياً للغاية، وكان موقفاً يسجل لسموه في طريقة وأسلوب وإيجابية التعاطي مع المخالفات، فقامت اللجنة المختصة بتصنيف المخالفات، وبعدها تم التعامل مع كل فئة بطريقة تناسبها.
سمو ولي العهد كرس منذ التقرير الماضي أسلوب وطريقة ومنهج عمل للتعامل مع تقارير ديوان الرقابة، وهذا ما كنا نحتاجه منذ التقرير الأول، بالمقابل أعتقد أننا نحتاج أيضاً أن نراجع إجراءات التعامل مع تقرير ديوان الرقابة حتى لا نترك مجالاً للقصور في طريقة عمل اللجنة المختصة بالنظر في تجاوزات التقرير.
تزامن صدور التقرير مع تقديم برنامج عمل الحكومة لمجلس النواب، وهذا يتطلب من السادة النواب مجهوداً كبيراً في طريقة تعاطيهم مع تقرير ديوان الرقابة، وأخشى أن تكون اللجنة المختصة التي تشكلها الحكومة متقدمة كثيراً على طريقة تعاطي النواب مع المخالفات، وقد أثبتت مجالس نيابية سابقة فشلها في هذا الجانب.
طرحت سابقاً أفكار حول كيفية التعامل مع مخالفات أو تجاوزات الوزارات والمؤسسات الحكومية، كانت فكرة مراجعة إجراءات الوزارات، خاصة فيما يتعلق بالجانب المالي، من قبل جهاز يتبع مجلس الوزراء ويكون جهازاً صارماً وحيادياً وقوياً، بحيث إننا نوقف نزيف الأموال بطريقة خاطئة قبل أن تخرج الفضائح في تقرير الرقابة.
الهدف الأول من ذلك هو إيقاف الأمور الخاطئة التي يقوم بها الوزراء أو من هم دونهم، وبالتالي حين نوقف ذلك فهذا يعني أننا حافظنا على المال العام من الهدر، ووضعنا يدنا على الخطأ قبل أن يستفحل، وقبل أن يصبح فضيحة في تقرير ديوان الرقابة، وقبل أن نأتي بعد ذلك لنبكي على اللبن المسكوب.
الحفاظ على المال العام من الهدر هو الهدف، فمثلاً جاء في تقرير ديوان الرقابة فيما يخص وزارة حقوق الإنسان أن الوزارة استأجرت مكاتب للوزارة بمبلغ يصل إلى 2 مليون دينار، بينما استغلت 23% فقط من المكاتب المؤجرة..!
لو كانت هناك جهة رقابية داخلية داخل مجلس الوزراء تراقب أداء الوزراء، لقامت بإيقاف هذا النزف لأموال الدولة على الأقل خلال فترة 3 شهور قبل أن يتم هدر 2 مليون دينار على مكاتب لوزارة طارئة ومكاتب خالية.
2 مليون دينار تشتري مبنى كاملاً، ويمكن أن يصبح ملكاً للحكومة، ويمكن استغلاله من قبل أجهزة الدولة، أو أنه يحقق عائداً لو تم تأجيره..!
هناك أمور لا يمكن تجاوزها، ولا يمكن فهمها، فالغاز الذي يحرق في الهواء بلغت قيمته 96 مليون دينار..!
ونحن دولة تحتاج للغاز والطاقة، ونذهب إلى قطر وإيران وروسيا من أجل استيراد الغاز، والغاز في بلدنا، لكننا نحرقه في الهواء، هذه الأمثلة في تقرير ديوان الرقابة لا يمكن تجاوزها ولا فهمها، شعرت مع موضوع الغاز أننا في عام 1940 وليس في 2014 (موضوع التقرير).
مالا يتقبله الناس اليوم هو تناقض الصورتين، صورة مطالبة المواطن بشد الحزام على بطنه، وصورة هدر ملايين الدنانير دون محاسبة ودون رقابة، ودون أن يحاسب الوزير المسؤول.
هناك مبادئ خاطئة ومزعجة رسختها الدولة في السنوات الماضية، وهي أن الوزير المخطئ أو الذي تظهر فضائح وزارته في تقارير ديوان الرقابة المالية؛ إما أن يجدد له وإما أنه يعطى مناصب ترضية، وهذا الأمر لا تجده في أي دولة إلا في «البحرين الحنونة»..!
البعض سيقول لنا لا توجد محاسبة لوزير سابق، والتقرير صدر بعد التشكيل الوزاري، وهذا يعني أن الوزراء السابقين من غير محاسبة.
السؤال هنا؛ ألا تقوم اللجنة المختصة بمتابعة مخالفات تقرير الرقابة المالية باستدعاء الوزراء السابقين، وعقد جلسة معهم ومساءلتهم حول المخالفات التي وردت على وزارتهم في فترتهم؟
فقط استدعاء ومساءلة، وهذا لا أحسبه يحدث، لذلك فإن المخالفات التي ترد في تقرير ديوان الرقابة تزداد ولا تنقص، وإذا كنا نحيل مسؤولين صغاراً أو موظفين إلى النيابة العامة، فإن فوق هؤلاء وزيراً مسؤولاً، هو المسؤول الأول بالوزارة، فهل نقدم الموظفين الصغار أو من هم في منصب دون منصب الوزير كأضاحي، بينما الوزير يقضي إجازة في أوروبا بعد إعفائه من منصبه..؟
من أكبر أخطاء الدولة البحرينية هو أننا لم نكرس مبدأ المحاسبة، كل المحاسبات لا تخرج على نطاق التوبيخ، وأحياناً لا يحدث، وهذا لا يحفظ المال العام، ولا يحصر الأخطاء.
تحدثت بالأمس مع مسؤول، وكان الحديث عن جلب الاستثمارات، فقال: هل تعلم ما هو أكبر عائق أمام جلب الاستثمارات؟
قلت له أعرف..!
قال ماذا؟، قلت البيروقراطية، فقال نعم البيروقراطية والإجراءات، وقد زدت على هذا المسؤول أننا كدولة وضعنا أناساً همهم «تطفيش المستثمر» في مركز جذب أو تسجيل الاستثمارات، وفي سوق العمل، وبالتالي حين يأتي مستثمر من جنسية خليجية مثلاً، ويعرف من هيئته أنه من الجنسية الفلانية، فإن بعض الأشخاص يحاولون إعاقته وتعطيله وتطفيشه.
الموضوع أكبر من أن يرصد، بمعنى أن إعاقة تسجيل المستثمرين، يعمل من دون أن يوجد دليل على ذلك، فالتطفيش يكون بطلب أوراق أو إرسال المستثمر إلى سوق العمل وهناك ذات الشبكة تقوم بالواجب.
تحدثت عن الاستثمار لأننا في البحرين أكثر حاجة اليوم إلى جذب استثمارات، لكن بالبيروقراطية وعدم المسؤولية ووضع أناس لا يستحقون أن يكونوا في مراكز جذب الاستثمارات هي التي تعيق جذب الاستثمارات.
المخالفات التي وردت في تقرير ديوان الرقابة يشيب لها الرأس، مع أني أحسب أنه تقرير منقح، إلا أن مجموع الأموال المهدرة في ثنايا التقرير تحل مشكلة الإسكان، وتحل مشكلة الفصول الخشبية بوزارة التربية، وتقيم مشروعات سياحية نوعية، لكن بقينا سنوات نتباكى على هدر الملايين، وليس هذا وحسب، بل إن السنوات التي تأتي بها هدر أكبر، فماذا يعني هذا؟
وجود لجنة داخل مجلس الوزراء للرقابة على صرف الوزارات والشركات، من شأنه أن يوقف هدر الملايين، خاصة إذا كانت تقدم تقريرها لمجلس الوزراء كل 3 أشهر، هذا مجرد اقتراح، ضمن العصف الذهني ليس إلا.