من أرض الكنانة وشريانها النيل العظيم كانت بداية رحلته إلى أرض الخلود، البحرين، فانغرس فيها وهام بها حباً وعشقاً، فأعطى دون حدود وقدم سنوات حياته، طبيباً وإنساناً وناشطاً وأباً، عنوانه الحب الأزلي لهذا الوطن الصغير بمساحته الكبير بعطائه..
أحمد الجرف.. اسمح لي أن أخاطبك اليوم باسمك المجرد من كل الألقاب، فأنت اليوم في دار الحق التي ارتحلت إليها بأعمالك الخالصة لله دون شهادات أو مناصب أو مال أو ولد، فكل من عرفك عن قرب له معك حكاية «أحمد الإنسان»، فلم تتوانَ يوماً عن تقديم كل ما تستطيع من أجل رفع الألم عن مريض أو تقديم المساعدة لمحتاج، أو حتى بمواساة كثيرين بكلماتك الأبوية وبابتسامتك الجميلة.
رغم لقاءاتي القليلة معك طوال خمسة عشر عاماً، ماأزال أذكر أولها؛ حيث زرتك مريضاً في مركز النعيم الطبي، فشعرت أني أعرفك منذ زمن، فالطيبة والهدوء والابتسامة تفتح أبواب القلوب دون استئذان، فقد لمست فيك الإنسان البسيط المتفاني في عمله، رغم الضغوطات والصعوبات التي تواجهك.
مازلت أذكر ما قلته لي في تلك الزيارة بأنك قطعت عهداً أمام المرحوم والدك بأن لا تتقاضى أجراً من مريض، ورغم وفاة والدك ومرور تلك السنوات الطوال، مازلت ملتزماً بالوعد، باراً بوالدك الشهيد، فكان خيارك التوجه إلى العمل في المستشفيات الحكومية، رغم الفرص الكثيرة التي أتيحت لك في القطاع الخاص أو العمل الحر.
1979 كانت رحلتك الأولى من أرض العروبة مصر إلى أرض الخلود البحرين، حملت فيها علمك وإنسانيتك وصدق تعاملك وأخلاقك الأصيلة، وزرعتها في كل من حولك، فأنبتت حباً لا يعرف الحدود وأثمرت أصدقاء ومعارف لا عدد لهم، وأهم من كل ذلك أزهرت أربع زهرات، هم أبناؤك، الذين ورثوا منك تلك الصفات الأصيلة، فكانوا متميزين في دراستهم وعملهم، فانطبق عليهم المثل القائل «خير خلف لخير سلف».
أحمد الجرف.. أرجو أن تلتمس لي العذر، لست ممن يجيدون رثاء الراحلين، لكن عزائي وعزاء كل من عرفك أنك تركت فيهم ذكرى طيبة، لن تمحى بسهولة، فقد كنت حقاً الإنسان الكبير في خلقه وأخلاقه، والصديق الصدوق لكل من عرفك.
آراؤك ومواقفك الوطنية كانت دوماً موضع الاهتمام ممن حولك، أذكرك أثناء الأزمة التي حلت في البحرين، فقد كان بادياً عليك حزناً لم أعهده فيك من قبل، وحرقة قلب على وطن وادع يحاول بعض أبنائه سرقته، فكنت مدافعاً عنه بكل ما أوتيت من قوة..
أحمد الجرف.. ليت الموت يتيح لنا ولو دقائق قليلة لنودع أصدقاءنا وأحبتنا، ولكنه الموت الذي يأتي فجأة ليفرق بين الميت وأحبته في الأرض ليجمعه مع أحبته في السماء، إنه الموت الذي لا مفر منه.. سنة الله في خلقه، لكن عزاءنا الوحيد أنك كنت الإنسان الذي أحبه الله من بيننا فاختاره سريعاً ليكون عنده في الملكوت..
- ورق أبيض..
عزاؤنا وعزاء أهل البحرين كبير لعائلة الدكتور المرحوم أحمد الجرف، عظم الله أجوركم وأجورنا وألهمكم جميل الصبر وحسن العزاء..