تخيل لو أنك تتناول صنفاً واحداً من الطعام في كل الوجبات، يومياً، وعلى مدار العام، بل طوال الحياة. تخيل لو ينفض الكون جميع ألوانه ماعدا لوناً واحداً.. تصطبغ به جميع الأشياء من حولنا.. منزلك بكافة تفاصيله.. الشوارع.. السيارات.. أدوات مكتبك.. كتبك.. طعامك.. ملابسك.. حتى الورد.. حتى الشجر، حتى جسدك.!! جميع هذه الأشياء بلون واحد.. لون واحد فقط.
تخيل لو أن جميع أصابعنا سواسية، وجميع البشر لهم لون موحد وشكل موحد وطول موحد.. بل حتى بصمات أصابع البشر جميعاً لها نفس الشكل بكافة تفاصيله وتعرجاته وانحناءاته الدقيقة.. الدقيقة جداً.. جداً.
لو أن كل الأشياء من حولنا لا تختلف عن بعضها من حيث الشكل؛ فلا يكون للدائرة معنى ولا للمربع معنى ولا للمثلث معنى.. ويكون هناك شكل واحد هو المسيطر على جميع الأشياء من حولنا. فتفقد جميع الأشياء في الكون قيمتها وهويتها وماهيتها، وينصهر البشر والشجر وكل شيء في بوتقة صفات مشتركة لا يميز بعضها عن البعض الآخر شيئاً.!!
تأمل.. ماذا لو يمتهن الناس جميعاً مهنة واحدة، وتتعطل بقية المهن في الحياة.. ماذا لو يتعلم جميع البشر علماً واحداً لا يزيد عند أحدهم ولا ينقص عند آخر، وليس ثمة إضافة أو تغيير في تفصيلاته، بل ويفكر الجميع بطريقة واحدة ويتعاطى مع كل ما يستقبله بنفس الطريقة، كالقطيع الواحد بل أظل..
ما تلك الرتابة التي تعتري الكون؟! ما تلك البشاعة التي نعيشها؟! إنه ذات الأمر عندما نطالب بوطن لا تعيش على أرضه وتحت سمائه إلاَّ فئة واحدة بصفة واحدة وأيديولوجية مشتركة، تقول دائماً نعم لكل شيء، وتصفق لكل فعل، وتبارك كل فكرة.. عندما نرفض الاختلافات التي تمنح الأشياء معناها، والحياة زينتها، والأجزاء ألقها وتميزها، كما تمنح الحياة ثراءً وغنى. عندما نرفض تنوع الأفكار والرؤى والإصغاء إليها لتلاقحها وتبادلها والتفاعل معها، لنبني وطن متطور يشهد مراحلاً متلاحقة من النماء والإزدهار بعقول أبنائه وسواعدهم.. بتنوعهم وثراء تجاربهم ومكتسباتهم. الإخوة في البيت الواحد لا يشبه أحدهم الآخر في كل شيء.. لا بد من الاختلاف -إنه ديدن الحياة وسمتها- لكنهم لا يتناحرون لمجرد اختلاف طباعهم أو أشكالهم أو صفاتهم. وهو ما يجب أن يكون عليه أبناء الوطن الواحد.. قد نكون مختلفين في كثير من الأمور، ولكن لا يمكن أن نسلم أنفسنا للخلاف ونقتاد إليه آخرون، بل ونجيش له ونروج لمساعينا حتى تموت الآمال في رحم البحرين الأم قبل ولادتها.
من المؤسف أن نقول إن الاختلاف أصبح تهمة.. تجهض الناس أحلامهم على أرض هذا الوطن.. ووحشاً ينتظر الفرصة ليفتك بالناس بلا رحمة أو وازع. كفاناً رفعاً لشعار «الوطن للجميع» إن لم نصدقه بالإيمان والعمل.. شعار كهذا يتطلب منا ترسيخاً في النفوس، والتحلي به خُلقاً عليه تقوم عقيدتنا المواطنية والديمقراطية في مملكة البحرين المضيافة المتفتحة على العالم منذ الأزل، وإن ذلك لن يحدث قبل أن نتمتع بقبول الآخر والاندماج معه والانصهار وإيّاه في بوتقة واحدة اسمها «البحرين» لا يميزها لون ولا يلونها عرق ولا ترسم ملامحها طائفة ولا يفتي في أمر وحدتها الوطنية مذهب أو ملة، فقد أجمعت الأديان السماوية بلا استثناء على الإنسانية وقبول الآخر بمعزل عن الوقوف على صفته أو ملته