في غرفة الانتظار كنا ثلاثة؛ حسن وأخوه رضا وأنا ورابعنا التلفاز، حيث أخذ حسن يضغط على أزراره محاولاً استخراج قناة «العالم» منه، حسن المشاكس الذي كان يقفز محاولاً لفت انتباهي وأنا منشغلة بتصفح الهاتف يقلده في ذلك أخوه، استسلم أخيراً فافترش الأرض بالقرب من التلفاز وأخذ يتابع ما يعرض.
عندما أدركت اندماجه وهو يتابع قناة «العالم» حاولت مقاطعته بسؤال: «أيها الشقي كيف عرفت أن تستخرج هذه القناة بدلاً من قناة طيور الجنة؟ ثم ألست صغيراً على متابعة الأمور السياسية؟» حتى سمعت منه تعليقاً كان أشبه بالصفعة: «أعرف كيف أستخرجها لأنني دائماً أتابعها ومنزلنا لا يشاهدون غيرها، هل تدرين أن الشرطة يقتلون الأطفال ويأخذونهم إلى السجن، لقد عرضوا كيف أن شرطي قتل طالباً في المدرسة بلا ذنب»
جاريته محاولة معرفة تفاصيل أكثر عما يختزنه عقله الصغير فقلت: «حرام؛ ليش قتلوه؟»، قال وقد بدا متحمساً: «لأن رجل الأمن يبحث عن الأطفال لقتلهم وإيذائهم، أخبرتني عائلتي بوجوب تجنب الشرطة في الشارع لأنهم قتلة ويؤذون الأطفال و(يودونهم السجن) بلا سبب»، وتابع «هل تدرين أنهم مرة جاؤوا بقرب بيتنا واكتشفوا أسلحة ومتفجرات في منزل مهجور وأخذوا كل ما فيه، فعندما يأتون إلى منطقتنا نختبىء عنهم حتى لا يأخذوننا إلى السجن»، فقلت: «إن لم تفعل شيئاً يؤذي الآخرين فلمَ يأخذونك؟»، فقال: «ألم تشاهدي ما تعرضه القناة؟ هم يأخذون الأطفال بلا ذنب ويضعونهم في السجن ليعذبوهم».
لم أعرف لحظتها من أين أجيبه، غير أني أدركت أنه من السهل في أي مجتمع تغيير آراء واتجاهات الناس، لكن من الصعب تغيير القناعات المترسخة لديهم، وهو ما وجدته في ذهن هذا الطفل، الذي اكتشفت أن عمره لا يتجاوز تسع سنوات، فيما أخوه «رضا» لا يتجاوز الخمس سنوات ظل يبحلق في ما تبثه القناة من سموم طائفية، وكأنه جالس يتناول وجبته الغذائية اليومية من «غسيل المخ».
وجدتني حائرة هل أخبره عن الطالب البحريني المختطف بماليزيا علي أحمد النشابة، والذي لولا فضل الله ثم تحركات وزارة الداخلية لما تمكنوا من إنقاذه وإعادته سالماً؟ قلت له بنفس لغة البراءة التي يخاطبني بها: من قال لك يا حسن إن رجال الأمن قتلة؟ إن كانوا يقتلون الأطفال فلمَ الأطفال يلجؤون إليهم عندما يداهم منزلهم حرامي؟ فوظيفة رجل الأمن أن يحميك أنت وأخاك رضا ويحمي عائلتك والجميع، ووظيفته السهر ليلاً كي لا يتسلل لص إلى منزلك فيما تنام في أمن، إن رجل الأمن يجب أن يكون قدوتك لأنه الإنسان الشجاع الطيب الذي يحارب الأشرار والمجرمين الذين قد يؤذونك أنت ورضا، إن رجل الأمن عندما يقبض على المخربين الذين يودون تخريب مدرستك و»صفك» فواجبه أن يوقفهم حتى تتجه إلى المدرسة وتنال التعليم الذي تستحقه وأنت مرتاح بعيداً عن أي مخاطر أو إصابات، ولذلك فهو يضحي بنفسه لأجلك، ثم أن مستودع الأسلحة الذي ضبط قرب منزلك لو انفجر ألم تكن لتتأذى أنت ومنزلك ومنازل الجيران؟ يا حسن اترك عنك هذه القناة المليئة بالأكاذيب واهتم بمشاهدة ما يناسب عمرك، فأمور السياسة ستؤثر عليك نفسياً، كان رضا جالساً ينظر إلي ولا أدري إن كان يفهم ويستوعب عقله البريء ما أقول.
شعرت بالأسى لأن الكلام الذي سمعته صادر من طفل، ولن أستغرب بعد عشرين سنة إن تصفحت الجرائد ولمحت خبراً عنه هو وأخوه يفيد بأنهما متورطان في تفجيرات أوقتل رجل أمن، فقد اغتصبت براءتهما بالكامل، وبدل العيش أجمل سنين الطفولة انشغلا بما تعرضه تلك القناة من أجندة طائفية رسخت في ذهنهما؛ أن كل رجل أمن قاتل -كل سبب يؤدي إلى نتيجة- فالنتيجة الحتمية أن محاولة قتل أي رجل أمن بالنسبة لهما يأتي من منطلق الدفاع عن النفس.
حسن ورضا من ضحايا هذه القنوات التي تغتصب طفولتهما وتخاطبهما بلغة المظلومية وتجندهما لأغراض سياسية ذات أبعاد انقلابية، حسن ورضا بعد سنوات ستكون لديهما قناعة بأن رجل الأمن قاتل ولا بد من الاقتصاص منه، لذلك على الدولة أن تدرك أن أمثال حسن ورضا جزء من جيل البحرين القادم واللذين سيشهدان خطة 2030، فهل هناك خطة طوارىء أو استراتيجية أعدت لأمثال حسن ورضا وغيرهما ممن لا يعيشون كبقية الأطفال بل تزرع في عقولهم قناعات من المحال تغييرها إن فطموا عليها واستمرت تغسل عقولهم البريئة؟
هناك مسؤولية مشتركة وحاجة تفرض نفسها بين هيئة شؤون الإعلام ووزارة الداخلية ووزارة التربية والتعليم وكافة الجهات ذات العلاقة بإيجاد برامج توعوية تمارس منهجية الوقاية خير من العلاج مع جيل البحرين القادم، حيث تقي حسن ورضا من التعرض لهذه السموم التي تغتصب إلى جانب طفولتهما حب الوطن ومبادىء المواطنة، وتعمل على تشويه الحقائق وتحويلهما من مواطنين صالحين إلى مؤيدين لأجندات خارجية تعمل ضد وطنهما.
هناك حاجة لتربية الأطفال وتنشئتهم إعلامياً على حقيقة أن رجل الأمن مواطن صالح، وأن الأشرار الحقيقيين هم من يحاولون دس حسن ورضا في الشوارع لقتل رجال الأمن.