هل سندرك يوماً أن ظهور الكوادر البحرينية في المحافل الدولية على اختلاف مستوياتهم وبتنوع تخصصاتهم إنما هو تقديم عملي لصورة البحرين الحقيقية، والتي يجهلها كثيرون؟!


في الجزء الأول من كتابه «مما رأيت»، نقل د.فهد الشهابي تجاربه الذاتية والمحصلة الثقافية التي حصدها من رحلاته المغامرة، وهو أحد الكتب الثرية في مجال «أدب الرحلات»، قياساً على كونها التجربة الأولى للكاتب، والتي يستشرف من خلالها ازدهار هذا النوع من الأدب في البحرين، وربما على مستوى الخليج، بعد ظهور بقية السلسلة، وإصدارات مشابهة.
جاء في تقديم الكتاب من قبل مستشار جلالة الملك لشؤون الإعلام، نبيل بن يعقوب الحمر، ما نصه «وفي السفر سوف نكتشف ببساطة أن البشر جميعاً متشابهون حول العالم، والحضارة الإنسانية واحدة، حتى وإن اختلفت في شكلها، يبقى المضمون الإنساني واحد، كما هي لوحة الفسيفساء، بجمالها المتمازج من اختلاف ألوانها»، ولعل من المهم الإشارة إليه ذلك الكم الهائل الذي تناوله الكتاب من المعلومات السياحية التي من شأنها أن تغنينا في المعرفة.
في نقاش ثقافي وفكري شاركت فيه مع مجموعة من الأساتذة والمثقفين على المستوى الخليجي قبل أيام قلائل، نقل أحد الأخوة الزملاء تجربة قسم التاريخ بجامعة الكويت، والذي أدخل نظام الرحلات العلمية كتطوير مباشر لتناول مواضيع التاريخ. وشملت تلك الرحلات العلمية عدداً من الدول مثل، مصر الأقصر، اليونان، السعودية، إسبانيا، إلى جانب خطط مستقبلية لرحلات أخرى. وفي إشارة للفائدة التي حصدها المشاركون في تلك الرحلات، تبين أن المحصلة الثقافية والتاريخية التي اكتسبها هؤلاء كانت أكبر بكثير من حجم المقررات الدراسية والتي تتلى على الطلاب داخل الصفوف المغلقة، والتي ربما تعزز ببعض الوسائل التعليمية البسيطة. وأضاف زميلنا أن كل بلد ذهبوا إليها كان المسح التاريخي لمواقعها أشبه بإنجاز، وفصل مكثف لفهم التاريخ والواقع والجغرافيا.
ما أود قوله من كل ما سبق، إن البحرين متى ما أرادت الارتقاء، متى ما وجب عليها تمويل المشروعات والاستثمار في كوادرها الوطنية على كل المقاييس، فكثير من التقشف في بنود السفر، وكثير من التخصيص للفئة المستهدفة في غير محلها للحصول على الفرصة، وكأنها سياحة مكفولة من قبل الحكومة، أكثر من كونها مهمة عمل، وفرص تطوير، وتعرف على الثقافات بما يخدم العمل والإبداع البحريني، وباعتقادي أنها بحاجة لمزيد من المراجعة.
لعل ما أطرحه من أفكار في هذا المقال طموح، لدرجة لا يمكنني استشراف تطبيقه في مستقبل قريب، لكن ما يدفع لكتابته فعلياً هو اسم البحرين، ومستوى ما يمكن أن تحققه البحرين من مخرجات ثقافية وإبداعية وإنجازات من قبل أبنائها.
عرضت علي جزئياً تجربة مشابهة لتجربة جامعة الكويت في إحدى الجامعات الخاصة البحرينية، ولكن السؤال، هل سنحصر الثقافات والعلوم والتميز والتفرد في خريجي الجامعات الخاصة بمعزل عن الحكومية؟! هل ستعمل مؤسسات الدولة بلغة الأرقام والميزانيات أبد الآبدين عندما يكون الأمر متعلقاً ببرنامج أو إضافة يمكن تحقيقها خارج البلاد؟ هل سندرك يوماً أن ظهور الكوادر البحرينية في المحافل الدولية على اختلاف مستوياتهم وبتنوع تخصصاتهم إنما هو تقديم عملي لصورة البحرين الحقيقية، والتي يجهلها كثيرون؟! وإن ذلك في حد ذاته إعلام بحريني ميداني يعبر الحدود، ويفرض نفسه في الساحة الدولية. لن أعمم في حديثي الجميع، ولكن بعضاً من المؤسسات بحاجة حقيقية لفهم تلك الثقافة.
إننا إذ نلقي بكثير من الأعباء على معهد البحرين للتنمية السياسية، ومؤسسات مشابهة، لما نواجهه في الداخل البحريني من مشكلات متفاوتة في عدم قبول الآخر، لاسيما في ظل ظروف تخضع للتأجيج والتوتر، فذلك لأنه وبصراحة لم يكن بوسع كثير من البحرينيين التعرف عن قرب على كثير من الثقافات في العالم، رغم التنوع الثقافي الداخلي للبحرين من مواطنين ومقيمين، نظراً لاعتبارات مادية تحرم كثيراً منهم فرص السفر بصفة خاصة، ونظراً لاعتبارات إدارية توزع فرص المشاركات الخارجية بمزاجية عالية.
نموذج حي علمت به في إحدى وزارات الدولة، توجه فيه برامج السفر الخارجية لغير المعنيين بها، وبالتالي فإن الفائدة المرجوة من هذا البرنامج لا يمكن تحقيقها، ثم «تولول» الوزارات والهيئات، إنها لا تنتج بقدر ما أنفقت، ومرجع ذلك فساداً إدارياً صار لزاماً إصلاحه.
إن بعض الانتقادات الشعبية تجاه الحكومة أو بعض القوانين، إنما هو نتيجة حتمية للجهل، بواقع كثير من الدول في الخارج، والتي لا تصلنا إلا الصورة المشرقة لها، ومتى ما اطلعنا باستمرار كل حسب موقعه وفي مجاله -طالب أو موظف- على التجارب الأخرى، سيزداد اليقين الشعبي لدينا بأننا في البلد الأفضل، وأننا ننعم بكثير من الامتيازات التي يتحسر عليها آخرون.
قد يبدو أن هذا المقال يدعو لتشريع أبواب السفر على مصراعيها لكل المواطنين في مواقعهم المتعددة، ولكن القصد من ذلك إنما هو إيجاد مزيد من الفرص، وتوجيهها لمستحقيها بما يخدم عملهم، والانطلاق لفضاء ثقافات وخبرات وتجارب ومعارف عالمية بلا حدود.