شكلت قناة الجزيرة الفضائية منذ انطلاقتها قفزة نوعية في فضاء الإعلام العربي، ما جعلها تقفز كخيار أول رأى المشاهد والإعلامي العربي على حدٍ سواء في خلفيتها الإنجليزية النابعة من مدرسة البي بي سي مشروعاً واعداً يتفقون أو يختلفون معه، ولكنهم يقدرون كسره للاحتكار الجائر والوصاية على العقل والرأي وانتهاك قدسية الخبر بالتدليس والتوجيه الفج التي مارسها لعقود طويلة الإعلام الرسمي.
زادت شعبية الجزيرة بعدد من الشعارات التي لامست احتياجات الشارع العربي المتعطش لصوت ينصف المهمشين ومن لا صوت لهم، وقفزت لتصبح مرجعاً إعلامياً محترماً للكثير من الباحثين والأكاديميين والنخب السياسية والاجتماعية.
ومع تنامي هذا الدور «الإعلامي - السياسي» ظهرت بوادر تراجع في مهنية القناة، تجلى في محاولاتها ربط ما تتمتع به من مهنية إعلامية ومصداقية عند جمهورها مع مواقف سياسية لصالح قطر الدولة الراعية الرسمية للقناة، أو مع توجهات سياسية بالغت القناة في الانفصال عن محيطها القطري، ففي الوقت الذي كانت تثير الإعجاب تفتح ملفات غاية في الأهمية في كل مكان؛ كانت قطر قدس الأقداس لا تفتح ملفاتها إلا على سبل المدح والثناء، وهو ما بنى جداراً عازلاً بدأ يرتفع شيئاً فشيئاً ليفصلها عن قطاع من الرأي العام يتسع طردياً مع زيادة متابعيها.
تطور الأمر ليصبح أكثر فجاجة عندما مارست الجزيرة أحادية النظرة بارتباطها مرة مع حزب الله وأخرى مع جماعة الإخوان المسلمين، وهو ارتباطٌ زاد ليكون في المراحل الأخيرة توأماً سيامياً ملتصقاً بشكل يصعب فصله، فتبنت بالمطلق مواقف الجماعات الراديكالية في المنطقة.
أول بوادر هذه التوأمة تحول الجزيرة لناطق باسم الجماعة، خصوصاً مع الجماعات السياسية، تمثل في أمرين أساسيين؛ الأول إغراق القناة بإعلاميين وموظفين من جماعة الإخوان المسلمين أو المحسوبين عليهم، وهو ما انعكس على خطاب القناة الإعلامية، وتفجر هذا الموقف مع تفجر ثورات الربيع العربي، حيث تبنت القناة نهجاً اصطفافياً في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا، ومحاولة تجاهل كافة القوى السياسية والشعبية على الأرض.
الأمر الثاني في الربط؛ كان تبني القناة لخطاب تحريضي ضد دول الخليج العربية، مخالفة بذلك أبسط القواعد الأخلاقية والمهنية وحتى السياسية والمصالح المشتركة مع هذه الدول، وتمثل ذلك بصورة كبيرة في دعم مواقف دول وجماعات مثل إيران وحزب الله والنظام السوري قبيل انطلاق الثورة السورية، وتمثل الموقف الأكثر إيلاماً في دول الخليج بدعم القناة الواضح والصريح للجماعات الراديكالية في البحرين إبان أزمة 2011 وما بعدها، ومن ثم تحريضها على دول المنظومة الخليجية، وتحديداً السعودية والإمارات إضافة إلى البحرين.
هذا التحول في خطاب القناة الإعلامية لا يمكن نزعه بأي حال من الأحوال عن المواقف السياسية لدولة قطر، والتي سعت إلى التغريد خارج السرب الخليجي من خلال التدخل الواضح في دول الجوار، والدعم اللامحدود -حسب كثير من التقارير- لزعزعة أمن واستقرار المنطقة؛ سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
الخلاف الخليجي-القطري وصل إلى مراحل متقدمة، حسب ما يرشح من معلومات شحيحة وتحركات نشطة في الخليج، حيث يشاع أن أحد الشروط التي وضعتها دول الخليج العربية هي تخلي قطر عن قناة الجزيرة، وهو ما يعني أن القناة قد أصبحت حالياً عبئاً على الدوحة، بعكس الدور الذي كان مأمولاً منها، فماذا يعني إغلاق القناة بعد سنوات من العمل؟!
.. وللحديث بقية