قيل في الأثر «تبدأ الحضارة حيث ينتهي الاضطراب والقلق»، وكلنا نعلم حجم الارتباط الكبير بين القانون والحضارة في كافة الأمم، وكيف أن تنظيم القوانين وإحقاق العدل شرط رئيس لقيام الحضارات والنهوض بما تقدمه من منجزات علمية وثقافية وفنية وأدبية وفكرية، بل وعلى كافة الأصعدة.
من هنا تنبثق أهمية دستور مملكة البحرين في وضع السلطة القضائية وتنظيمها، والتأكيد على أهمية إنشاء مجلس أعلى للقضاء، بقانون؛ ليمارس دوره الإشرافي في المحاكم وفي الأجهزة المعاونة، في ضوء صلاحياته. وقد عزز ذلك تأكيد جلالة الملك المفدى على ما للقانون من أهمية في بناء حضارة البحرين والنهوض بها، بربط جلالته لأهمية بقاء المملكة بلداً للقانون والمؤسسات، وبين كونها بلداً للحرية والتعايش السمح بين مختلف الأديان والأفكار والثقافات، في مواضع عدة؛ منها كلمة ألقاها جلالته بمناسبة العيد الوطني المجيد في 16 ديسمبر 2011.
ولاشك أن تأسيس المجلس الأعلى للقضاء وفصله إدارياً ومالياً عن وزارة العدل والشؤون الإسلامية؛ كسلطة قضائية مستقلة، أسهم في إرساء دعائم العدل والمساواة ووضع قاعدة صلبة لضمان النزاهة في القضاء، ومنح فرص أكبر لمزيد من التخصص في العمل ومزيد من الجودة. وهو ما تمخض عنه ظهور الاستراتيجية الوطنية للمجلس الأعلى للقضاء بما تشمله من مشروعات رائدة مبشرة، يأتي على رأس قائمتها مشروع تدريب قضاة المستقبل 2014، إلى جانب الإعداد الفني وتدريب القضاة الحاليين وأعضاء النيابة العامة والموظفين، فضلاً عن جهود أخرى من شأنها أن تثمر عن رؤية حديثة للسلك القضائي البحريني.
وتستمد السلطة القضائية وجودها وكيانها من الدستور، باعتبار أن سيادة القانون أساس الحكم في الدولة، ولذلك فإن الهدف من المجلس الأعلى للقضاء واستقلاليته إنما هو تحقيق ضمانات ودعامات سيرورة العمل القضائي في البحرين كما يجب دائماً، وضمان استقلاله التام حتى لا يكون عليه سلطة ولا سلطان سوى القانون، وبما ينعكس على مستقبل مملكة البحرين الأمني والسياسي والحضاري، لما يحققه من عدالة واستقرار.
مزيد من الترقب يعترينا لما سيقدم من إنجازات ذات أهمية، عندما يكون «تعزيز كرامة الإنسانية للمتقاضي» هدفاً أسمى من أهداف المجلس الأعلى للقضاء؛ كما أورد رئيسه، رئيس محكمة التمييز المستشار سالم الكواري، في تصريح له قبل أيام قلائل. لاسيما وأنه في خطٍ موازٍ يظهر نشاطاً لافتاً وملحوظاً للتأسيس لعمل المجلس وتحقيق الأدوار المنوطة به، في عمل مؤسساتي منظم جاء ضمن باكورته توقيع مذكرة التفاهم بينه وبين المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان لما لنشاط الأخيرة من ارتباط وثيق بعمل المجلس ومهامه.
يأتي ذلك مع باقة من المشروعات الرائدة والمبادرات محل الإشادة والاهتمام، كـ»مشروع قضاة المستقبل»، وزيارة وفد قضائي من مملكة هولندا إلى البحرين والتي تمخضت عن تبادل الزيارة مع وفد بحريني قضائي إلى هولندا، وذلك من أجل الإعداد لهندسة وتصميم البرامج التدريبية للقضاة الحاليين والمستجدين.
باعتقـــادي.. فــإن مثل هــذه الجهـــود المتلاحقة المبذولة من قبل المجلس الأعلى للقضاء، تنبئ بمستقبل قضائي أفضل وتنم عن عمل جاد، وهو ما يبشر بمزيد من التطورات في السلك القضائي، وما يحملنا مزيداً من الآمال والتطلعات المستقبلية تجاه المجلس، لاسيما مع ما يحظى به من دعم ملكي خاص كفيل برفع مستوى السلطة القضائية وتحقيق العدالة في مملكة البحرين.
ولعل مزيد من التنوع والانتشار المنظم لعمل المجلس والجهات التي يتعاون معها فيما يخدم مجال تخصصه، يكفل تحقيق أهدافه بخطى أكثر ثباتاً وسرعة، لاسيما أن حمل المستقبل آفاقاً أخرى للتعاون مع بعض الهيئات والمجالس والمؤسسات الهامة على نحو الحكومة الإلكترونية لتحقيق هدف التعاملات التكنولوجية الحديثة، والمجلس الأعلى للمرأة بما يعزز من دور المرأة البحرينية في السلك القضائي من جهة وبما يضمن حقوقها من جهة أخرى، فضلاً عن ما يمكن لمعهد التنمية السياسية من تحقيقه لصالح المجلس في تعاون مشترك بما يمكن من التأصيل لوعي ثقافي بحريني بالسلطة القضائية وما لها من أبعاد ممتدة على كافة جوانب الحياة في المملكة.