أول ما استوقفني في رواية قواعد العشق الأربعون هو كاتبة الرواية. وقد يكون ذلك خطأ نقدياً، من وجهة نظر حداثية، حيث يتعين على الناقد قراءة النص الأدبي باعتباره عالماً مغلقاً يحيل إلى نفسه وليس مفسراً للعالم خارجه وليس مترجماً لسيرة مؤلفه. إلا أن بناء البنية المعمارية للرواية، والبناء الفكري لها دفعاني إلى التوقف عن قراءتها والبحث في سيرة كاتبة الرواية.
«إليف شافاق» روائية وأكاديمية تركية تنقلت في طفولتها بين العديد من الدول بسبب انفصال والديها وبسبب إتمامها لدارساتها العليا. وهي تحمل درجة الدكتوراه وقد تخصصت في العلوم السياسية و»الجندر» ودراسات المرأة والتصوف. وقد أتاحت لها حياة السفر الالتقاء بالعديد من الثقافات ومقابلة الكثير من الصوفيين وكلها خبرات إنسانية ومناح ثقافية برزت في المعالجة الإنسانية في روايتها التي لاقت رواجاً عالمياً «قواعد العشق الأربعون».
الرواية في بنيتها رواية ذات طابع صوفي تراوح بين زمنين، الزمن الحديث الذي يؤطر للرواية. وحكاية الدرويش الجوال شمس التبريزي مع الخطيب الكبير المتصوف جلال الدين الرومي التي وقعت في القرن الرابع الهجري. وتأسست بنية الرواية على تقنية «تعدد الأصوات» التي عبرت فيها كل شخصية عن وجهة نظرها تجاه الأحداث، لذلك فقد عبرت الرواية غير مرة عن حدث واحد من وجهات نظر متعددة للشخصيات التي اشتبكت في الحدث نفسه. من أجل ذلك يمكن التقاط الرؤية التي تعبر عنها الرواية بأنها تنطلق من «ثيمة» أخلاقية تكررت قليلاً في الرواية في الصيغة التعبيرية «لا تحكم على الآخرين»، لكنها فسرت الكثير من الأحداث.
وترجمةً لثيمة «لا تحكم على الآخرين»، فقد حضر الدرويش شمس التبريزي إلى مدينة قونية لمصاحبة المتصوف الكبير جلال الدين الرومي، ووضعه أمام اختبارات عسيرة كان أولها أن طرح عليه سؤالاً حرجاً أمام عدد غفير من مريديه يفاضل فيه بين النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأحد الدراويش الذي اتهم بالزندقة. ثم عمل شمس، أثناء صحبته للرومي، على إخراج الرومي من شرنقته الحريرية التي تلزمه الوقوف على منبر الجامع الكبير والاعتكاف في منزله الأنيق ومجالسة العلماء والمريدين من صفوة القوم، وإعادة دمجه مع عامة الناس من المتسولين والمجذومين بل ودخول الخمارات ومقابلة السكارى من أجل دعوتهم إلى الله.
وقد تكون الحكاية «الجوهر» المعبرة عن هذه الفلسفة والمترجمة عن «ثيمة» الرواية، حكاية العاهرة «وردة الصحراء»، والمقاتل المتطرف «بيبرس». إذ خرجت وردة الصحراء ذات يوم من المبغى الذي كانت تعمل فيه، بحثاً عن الله، فتنكرت في زي رجل ودخلت الجامع لتسمع خطبة الرومي. لكن بيبرس الذي كان مقاتلاً متشدداً في محاربة البدع والدراويش والمتصوفة اكتشف وجودها فجرها خارج المسجد وأوسعها ضرباً غيرةً على المسجد من أن تدنسه عاهرة. وكان بيبرس يعرف وردة الصحراء جيداً، فهو أحد المرتادين بانتظام للمبغى الذي كانت تعمل فيه، وكانت هي الفتاة الأثيرة عنده. وهنا يتجلى مقصد الرواية، فلا أحد من الذين شاركوا في ضرب وردة الصحراء وتعذيبها لانتهاكها حرمة المسجد يعرف بأنها جاءت تبحث عن الله خارج المبغى بحثاً عن حياة أكثر نقاء، ولم يكن أحد يهتم بالأسباب القاهرة وحياة التشرد التي دفعت بالفتاة للعمل عاهرة. كما أن زملاء بيبرس في تعذيب وردة لم يكونوا يعلمون أن بيبرس المقاتل المجاهد والمواظب على الحلق الدينية هو في الحقيقة أحد زبائن المبغى الدائمين!!
إن الرؤية التي قامت عليها الرواية هي رؤية قديمة جديدة تتطابق مع البنية الشكلية للرواية التي دمجت الواقع الحديث بالحكاية القديمة. وهي إشكالية مازالت تعاني منها الثقافة الإسلامية وكان لها انعكاسات اجتماعية وسياسية خطيرة النتائج. فمازال أناس ينصبون أنفسهم أوصياء على المجتمع يحكمون على الآخرين ويحاكمونهم ويتحكمون بمصائرهم. فكم من فئة في هذا المجتمع تسلطت على فكره وقسمت أفراده إلى أتقياء ومؤمنين ومسلمين ومبدعين ومخطئين وموالين وخائنين، بل إنها لم تتوان عن الحكم عليهم بالشرك والكفر، فلم يجن منهم المجتمع غير الفرقة والخصومة. وكم من حرب ضروس خاضتها جماعات متطرفة ضد جماعات أخرى بذريعة حماية الإسلام من الذين أحدثوا فيه البدع والأباطيل، فمزقوا المجتمع وأسالوا الدماء وشردوا النساء والأطفال وأساؤوا للإسلام أبلغ إساءة.
رواية قواعد العشق الأربعون رواية فلسفية في جلباب صوفي تستحق القراءة والتأمل في قواعد العشق الإلهي وفي طرق الوصول إلى الله في رحلات روحانية نقية خالية من الشحناء والتشويه وانتقاص الآخرين.