لأني أعرف أن العلاقة الكونية بين كل الأشياء والظواهر المادية وغير المادية هي علاقة محبة وتبادل، علاقة قائمة على الأخذ والعطاء، بالضبط كحالة المد والجزر، فلا يمكن أن يكون هناك مد دون جزر والعكس صحيح، وكتعاقب الليل بالنهار؛ فلا جدوى لوجود الليل إن لم يكن هناك النهار، منذ أن خلق الكون وما فيه كان هناك الأخذ والعطاء، فوق وتحت، أرض وسماء، بحر وصحراء، كل ذلك في حركة لا تتوقف عن التفاعل والتبادل، هي حركة الحياة بكل ما فيها، من أصغر الذرات إلى أكبر المجرات.
والكثير منا يقف عند عملية الصدقة، والتي تعني أن يعطي من يملك إلى من لا يملك، أو أن الغني يعطي الفقير ما تجود به نفسه، لذلك نرى الكثير من الأقوال التي تمتدح الصدقة وتعمل على زيادة رقعتها في كل الميادين.
حيث قيل: الصدقة باب من أبواب الجنة.
وقيل: الصدقة أفضل الأعمال الصالحات وأفضل الصدقة إطعام الطعام.
وقيل: الصدقة تظل صاحبها يوم القيامة وتفك صاحبها من النار.
وقيل: الصدقة تطفيء غضب الرب وحر القبور.
الصدقة خير ما يهدى للميت، وأنفع ما تكون له، ويربيها الله عز وجل.
وقيل: الصدقة تطهير، وتزكية للنفس ومضاعفة الحسنات.
وقيل: الصدقة سبب سرور المتصدق ونضرة وجهه يوم القيامة.
وقيل: الصدقة أمان من الخوف يوم الفزع الأكبر وعدم الحزن على ما فات.
وقيل: الصدقة سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات.
وقيل: الصدقة من المبشرات بحسن الخاتمة وسبب لدعاء الملائكة.
وقيل: المتصدق من خيار الناس والصدقة ثوابها لكل من شارك فيها.
وقيل: صاحب الصدقة موعود بالخير الجزيل والأجر الكبير.
وقيل: المنفقون من صفات المتقين والصدقة سبب لمحبة عباد الله للمتصدق.
وقيل: الصدقة أمارة من أمارات الجود وعلامة من علامات الكرم والسخاء.
وقيل: الصدقة سبب في استجابة الدعوة وكشف الكربة.
وقيل: الصدقة تدفع البلاء وتسد سبعين باباً من السوء في الدنيا.
وقيل: الصدقة تزيد في العمر وتزيد في المال وسبب في الرزق والنصر.
وقيل: الصدقة علاج ودواء وشفاء.
وقيل: الصدقة تمنع الحرق، والغرق، والسرقة، وتمنع ميتة السوء.
وقيل: الصدقة أجرها ثابت ولو كانت على البهائم أو الطيور.
هناك أقوال أخرى في كل الديانات وكل الفلسفات قالها حكماء ومتصوفون وكهنة، وما أوقفني حقاً هي قصة قصيرة من قصص الصالحين والتي تحاول أن تنقل لنا تجربة غاية في الروعة، تقول القصة: كان الليث بن سعد يتاجر في العسل، وذات يوم رست سفينة له محملة بالعسل، وكان العسل معبأ في براميل، فأتت له سيدة عجوز تحمل وعاء صغيراً وقالت له: أريد منك أن تملأ هذا الوعاء عسلاً لي، فرفض وذهبت السيدة لحالها.
ثم أمر الليث مساعده أن يعرف عنوان تلك السيدة ويأخذ لها برميلاً كاملاً من العسل فاستعجب الرجل وقال له: لقد طلبت كمية صغيرة فرفضت وها أنت الآن تعطيها برميلاً كاملاً.
فرد عليه الليث بن سعد: يا فتى أنها تطلب على قدرها وأنا أعطيها على قدري، لو علم المتصدق حق العلم وتصور أن صدقته تقع في (يد الله) قبل يد الفقير، لكانت لذة المعطي أكبر من لذة الأخذ.
وإذا وقفنا أمام جملة الليث يا فتى أنها تطلب على قدرها وأنا أعطيها على قدري، لرأينا الروعة في العطاء الحقيقي، الذي لا يعني فقط أنني أعطي المحتاج حسب ما يريده في تلك اللحظة والتي قد لا تكون أكثر من وجبة يوم واحد، المحسن أو المتصدق الحقيقي هو الذي يعطي المحتاج ما يطلبه منه، بقدر ما يشعر المحسن أنه قادر على إعطائه أكثر مما طلب.