السيطرة السريعة لتنظيم «داعش» على مناطق شاسعة في العراق وسوريا حزيران الماضي والجرائم التي يرتكبها كل يوم بحق من يخالفونه، لم يكن لها أن تتم لو أن العالم سارع إلى تقديم الدعم للثورة السورية منذ انطلاقتها، وتبنى فصائلها «السورية / المعتدلة» قبل أن تتحول، بفعل فاعل، إلى صراع طائفي أكل الأخضر واليابس، وساهم في بقاء نظام الرئيس السوري بشار الأسد إلى الآن ومنحه مزيداً من فرص المناورة على المستوى الداخلي والخارجي.
فداعش هي النتيجة الحتمية، التي كانت متوقعة، لتخاذل العالم في سوريا، وتردده عشرات المرات في تقديم أسلحة نوعية للفصائل المقاتلة على الأرض، هذا التردد فتح شهية «تجار الدين» من بقاع الأرض على مصرعيه، فسارع «كبار الممولين» إلى اغتنام الفرصة في السوق السورية فارضين شروطهم على الفصائل الفقيرة بتبني توجهاتهم المتشددة، وهو ما كان واضحاً بعد شهور قليلة، حيث تدثرت كثير من التنظيمات المسلحة تحت عباءة الدين والطائفة تطبيقاً لشروط الممولين.
كل ذلك يعني أن «أسلمة» الثورة وتحويل مسارها نحو مزيد من التطرف هو منتج صناعي في بيئة معروف عنها التعايش والانفتاح على الآخر ونبذها لكل أشكال التعصب والعنصرية، وما ساهم في تغذية هذا التوجه حرفية النظام السوري في استغلال كل ما هو متاح أمامه لكسب المعركة، فاستعان بإيران وحزب الله، ومن بعدهما بالمليشيات الشيعية العراقية مثل «عصائب أهل الحق» و«كتاب أبو الفضل العباس»، ليتحول المسار من ثورة وطنية هدفها كرامة الإنسان إلى حرب طائفية بين السنة من جهة والشيعة والعلويين من جهة أخرى، ما سمح لمزيد من التدخل الخارجي على أسس طائفية، وهو ما كان بمثابة القشة التي تعلق بها النظام، ولايزال.
في ظل هذه الفوضى والتمويل السخي للفصائل المتطرفة، كان من الطبيعي أن يتوج المشهد بظهور «داعش» وأخواتها، وتتقزم أهداف الثورة من تحرير الوطن واسترداد كرامة المواطن إلى قتل أكبر عدد من المخالفين في الدين والمذهب والطائفة، وكل ذلك تحت اسم «الدين» و«المذهب» و»الطائفة».
داعش لم تكن مارداً في قمقمه ظهر فجأة بعد مسح المصباح، فهي ولدت وترعرعت أمام أعيننا، ورغم تخوفنا من توجهاتها إلا أننا غضضنا البصر عنها؛ إما جهلاً أو لأنها حققت أهدافاً وقتية لبعض مموليها، إلى أن جاء اليوم الذي «تفرعنت» فيه على كل من حولها، وأعلنت نفسها «دولة» عابرة للحدود مهددة ومتوعدة باجتياح مزيد من الدول وقطع المزيد من الرؤوس، ولا مانع من فرض الجزية وسبي النساء، وإقامة «أسواق للعبيد والجواري».
القضاء على «داعش» اليوم أصبح هدفاً عالمياً، كل يقدم رؤيته واستراتيجيته في سبيل ذلك، لكن القول الفصل هو في الطريقة التي سيتم بها ادارة الحرب الثانية ضد الإرهاب. فالحرب الأولى التي أعلنتها الولايات المتحدة عقب 11 سبتمبر قبل 13 عاماً لم تؤت ثمارها إلى الآن، فمازال الإرهاب يقوى ويتمدد، بل يزداد عنفاً وشراسة، ويجد له المزيد والمزيد من الأتباع والمريدين والمؤيدين. رغم الحروب وآلاف الغارات التي تم تنفيذها منذ سنوات في أفغانستان واليمن والصومال.. والآن في العراق.
داعش انطلقت في غفلة من الزمن، ولاتزال إلى الآن تتحدى العالم بالمزيد من التطرف والإرهاب، فهل يستطيع العالم أن يكبح جماحها هذه المرة، أم أن الأمر سيحتاج إلى عشر سنوات أخرى وتدمير دول وإسقاط أنظمة وتشريد الملايين لنصل إلى ذات النتيجة؟!
سؤال برسم الإجابة أمام المجتمعين في مؤتمر جدة اليوم.