هو سلوك ديني قديم وشائع في الكثير من الشرائع والأديان، وتستعين به المعالجات النفسية والاجتماعية. إنه الاعتكاف، أو الخلوة، أو الانقطاع للعبادة والذكر والدعاء. إنه رحلة روحانية إلى ملكوت الخالق، وهجرة جسدية وعقلية عن روابط الأرض وجاذبيتها إلى قبب السماء وما وراء مجراتها.
سن الدين الإسلامي الاعتكاف في المساجد تحديداً ووضع له ضوابط شرعية وأوقاتاً مستحبة وأوقاتاً عامة. لكن بعض الفقهاء توسعوا في مفهوم الاعتكاف (العام) وجعلوه كل انقطاعٍ للمرء لعبادة الله سبحانه وتعالى يقيم فيه الصلاة ويقرأ القرآن ومكوثه في أي مكان أراد وفي أي وقت مستحضراً نية الاعتكاف. وفضلاً عن أن للاعتكاف أجراً عظيماً عند الله سبحانه وتعالى. فإن الاعتكاف رياضة روحية ينصرف فيها المرء عن انشغالاته الدنيوية وانفعالاته اليومية ليتطهر من ذنوبه وتسمو روحه ويصفو قلبه ويقترب من خالقه أكثر، بل ويكتفي به دون باقي خلقه يتوجه إليه ويناجيه شاكياً همه سائلاً حاجاته. فلا ينهي المرء اعتكافه إلا وقد خفت روحه بتخففه من ذنوبه، وهدأت نفسه باتصاله بالله وانقطاعه عمن سواه، وتزود بالصبر والرضا والقناعة مما أفاض الله عليه من رحماته.
كم تستحق هذه الحياة أن نأخذ إجازة مــن التزامنــا بهـا. نحن ننتظر الإجـــازات الأسبوعية والسنوية كي نجدد نشاطنا ونبتعد عن مواطن الضغوطات والتعب. فما بالنا ونحن نأخذ إجازة من عناء الحياة وضغوطها ومشكلاتها وابتلاءاتها؛ كي نتزود بما يعيننا على إكمال المسير فيها. تلك الفلسفة هي التي تقوم عليها رياضة اليوغا ومختلف رياضات التأمل والتدبر، وهي المنهجية التي يرتقي بها الصوفيون في مسالك عباداتهم ودرجات عشقهم الإلهي.
وقد أخذت هذه السلوكيات والطرائق بالتطور في بعض معاهد المعالجات الروحية والتأهيل النفسي. حيث تنظم بعض المعاهد رحلات خاصة إلى مواقع بمواصفات خاصة في العالم لبضعة أيام ينعزل فيها الفريق الملتحق عن العالم بمنع أعضائه من اصطحاب هواتفهم النقالة أو حواسيبهم المتنقلة. ويخضعون لتمارين روحية ونفسية تدربهم على (فك الارتباط) بعلائق الحياة المتشابكة والزهد في ملذاتها وترفها.
ومع بزوغ هلال شهر رمضان المعظم تكون أعز أمنيات كل مسلم أن يعتكف العشر الأواخر في المسجد الحرام استجابة لخطاب الله تعالى لسيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهمــا (وإذ جعلنــا البيــت مثابـــةً للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلىً وعهدنا إلى إبراهيـم وإسماعيــل أن طهــرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقــرة 125. فنســأل الله أن يمــن علينــــا بالاعتكـــاف في مسجده الحرام وأن يبلغنــا قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً وأن يتقبل منا صيامنا وقيامنا وكافة طاعاتنا.