هناك شعور لذيذ في أن تكون الأجنبي الوحيد بلباسك ومظهرك بين 60 عسكرياً أمريكياً لمدة 6 أشهر، لكنه أصبح عبئاً في نهاية سبعينيات القرن الماضي حينما تطلب الأمر أن أشرح في كل فصل جديد أنني من بلد بالكاد يوازي حجم نيوجيرزي اسمه الكويت.
في أحد الكورسات تحدى المدرب الطلبة عن من يعرف الكويت، فسمعت صوتاً يقول: «نعم أنا أعرف الكويت»، تملكتني مشاعر جياشة، فقد كان ذلك قبل أن تضعنا قناة «CNN»على خارطة الإعلام بعقد كامل، وحين استدرت للمتحدث لاحظت لأول مرة أنني لست العسكري الأجنبي الوحيد، تملكتني رغبة جامحة لمعرفة كيف عرف بلدي.
إلا أن المعلومات التي كان يلقيها عن الكويت أدخلتني في عاصفة عاطفية، كالتي تتملك الفرد حين يسمع السلام الوطني لبلده تعزفه فرقة نحاسية في بلد أجنبي، كان زميلنا العسكري الجديد يتحدث عن الكويت بحس إنساني، لكنه غير عاطفي. فالعاطفي هو أن يرق قلبنا لأهل غزة ونازحي سوريا، ويتمزق لما يكابده العراقيون والليبيون من مصائب تدفعنا للوقوف معهم، فالعاطفة هنا يقودها الدين والأصل والدم، أما الإطار الإنساني فأوسع، فالقيم الإنسانية هي التي جعلت بيل غيتس يتبرع بعشرة مليارات دولار لأعمال الخير حول العالم.
القفز من الإطار العاطفي المحدود للإطار الإنساني الواسع هو الذي دفع بالكويت قبل ما يقرب من 45 عاماً إلى أن يصبح العمل الإنساني جزءاً من أهداف سياستها الخارجية، لقد حرمت الكويت من الانضمام للتجمع الإنساني تحت مظلة الأمم المتحدة من يوم استقلالها 1961 إلى عام 1963 جراء «الفيتو» السوفيتي الانتهازي، وعندما قدر لها الانضمام للأمم المتحدة راحت تستخدم الأدوات الاقتصادية لإظهار وجهها الإنساني.
لقد أحس صانع القرار الدبلوماسي الشيخ صباح الأحمد حفظه الله وهو وزير للخارجية حينها: أن الواجب الأخلاقي يتطلب منا أن نكون»أخوة تقاسم قطعة الخبز»، كما جاء على لسانه قبل نصف قرن، لذا تم إنشاء الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية 1965، كأول مؤسسة إنمائية في الشرق الأوسط تقوم بالمساهمة في تحقيق الجهود الإنمائية للدول العربية والنامية، وكأداة لمد جسور الصداقة، حيث ركزت الكويت على مساعدة الدول الفقيرة والصغيرة.
لقد كانت شهادة الأمم المتحدة بإنسانية الكويت أقدم مما أعلنه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في أغسطس 2014، باعتبار الكويت مركزاً إنسانياً عالمياً، وأن سمو أمير البلاد المفدى الشيخ صباح الأحمد «قائد للإنسانية» لتاريخها الزاخر بالعمل الإنساني، والذي كان آخره استضافتها لأكبر عدد من مؤتمرات المانحين، بل والمشاركة بأكبر المنح فيها. فقد أقرت الأمم المتحدة نفسها قبل عقود عدة أن نسبة المساعدات الإنسانية التي تقدمها الكويت تتعدى مساهمات الدول الصناعية الكبرى والتي لم تصل إلى 0.70% من دخلها القومي، بينما كانت المساهمات الكويتية تفوق 3.8% من مجموع الدخل القومي الكويتي، ويزيد هذا أربعة أضعاف على الحد الأدنى الذي تطلبه الأمم المتحدة.
ومن مبدأ أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، اختارت الأمم المتحدة الكويت وأميرها لتقلده قلادة الإنسانية، فالقيام بالأعمال الإنسانية واجب لا يتم إلا بواجب تكريم الأمير الإنسان في 9 سبتمبر 2014، كما إن من أسباب وجوب هذا التكريم أننا نعيش أياماً تتجلى فيها الانتهازية والعنف والواقعية الميكافيلية الدولية، وكأنها طبيعة بشرية إنسانية، فالصهاينة وبعد نهشهم أطفال غزة يحاولون عبر شركات العلاقات العامة الدولية وبالأموال الطائلة تلميع أنيابهم وإعطائها ابتسامة هوليوود اللامعة، بينما تمنح قلادة الإنسانية للكويت لأن الأشياء عليها أن تظهر في الواقع أولاً قبل أن تظهر في التاريخ.
وقبل 35 عاماً عرف زميلي «داندي» الكويت من لوحة كبيرة بجانب مشروع ضخم في بلده «جامايكا» معنونة الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية، فنعم الأمير أميرها ونعم صندوق الإنسانية صندوقها.