دكتور محمد نعمان جلال



الدولة الوطنية الحديثة التي قامت في أوروبا ومنها امتدت وانتشرت في مختلف القارات، لا تسمح بأي تعدد للولاء يتساوى فيه الولاء للدولة مع غيره من أنواع الولاء الفرعي، كما لا للخروج على الحاكم؛ أي سلطة الدولة، حتى جاء النصف الثاني من القرن العشرين، وهذا التصور الإسلامي للدولة سبق أفكار توماس هوبز الفيلسوف السياسي الإنجليزي في كتابه «التنين»، الذي وصف حالة الطبيعة بأنها حالة من الفوضى ودعا لوجود الحاكم القوي الذي يفرض سلطة الدولة، وسار في نفس السياق مفكرون أمثال هيجل الفيلسوف الألماني.
بل أيضاً جان جاك روسو الفيلسوف الفرنسي صاحب كتاب «العقد الاجتماعي» عندما عبر عما أسماه الإرادة العامة وظهرت نظريات ومفاهيم حقوق الإنسان في بدايتها وأكدت ضرورة احترام الحاكم لهذه الحقوق، لكنها في نفس الوقت لم تبح لأية قوة الخروج على الحاكم، وظلت تلك المفاهيم في إطار النظام السياسي.
ورغم ظهور نظريات أطلق عليها النظريات الفوضوية التي دعت لهدم الدولة وإقامة تعاونيات، كما في نظريات بعض المفكرين الفرنسيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وكما في النظريات الماركسية، والتي رأت في الدولة أداة للتعبير عن الطبقة الغنية والملاك والرأسماليين وضد مصالح الطبقة العاملة، إلا أن هذه النظريات لم تحظً بقبول عام وظلت على هامش الفكر السياسي حتى قامت الثورة الشيوعية في روسيا وبدأت بما يشبه الفوضى والسعي لهدم الدولة تحت مقولة الثورة الدائمة، والتي عبر عنها ليون تروتسكي، إلا أن النضج السياسي لدي الفكر الماركسي الروسي بقيادة لينين دفعها للتحرك السريع برفض تلك التوجهات التروتسكية، التي دعت للثورة العالمية الدائمة، لذا دعا لينين لبناء الاشتراكية في دولة واحدة ثم جاء بعده ستالين ليعزز سلطة الدولة بأساليب متعددة من القمع بلغت الذروة، ومن خلالها أمكن له بناء دولة الاتحاد السوفيتي القوية التي حققت تقدماً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وجعلتها القوة الثانية الكبري في العالم آنذاك، وليس هنا مجال التفصيل في تطور الدولة السوفيتية وما آلت إليه علي يد جورباتشوف ويلتسين ثم عودتها لإعادة بناء القوة على يد بوتين، فهذا له مجال آخر.
نجد نفس الشيء حدث مع الثورة الصينية التي اختلف سياقها وتطورها في عهد ماوتسي تونج وثورة البروليتارية الثقافية العظمي التي دمرت الصين في الفترة من 1966-1976، لكن أمكن للزعيم الصيني دنج سياو بنج أن يعيد بناء الدولة بإطلاقه سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978، وبذلك قويت الصين اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وأصبحت في مصاف القوى الاقتصادية الكبرى، بل أصبحت تحتل المكانة الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن منذ العقد الأخير من القرن العشرين ظهرت نظرية هدم الدول بغير طريق الحرب، أي بتدميرها من الداخل، وكانت اتفاقيات هلسنكي عام 1975 وما سمي بالسلات (من سلة) الثلاث لها، وأهمها السلة المرتبطة بحقوق الإنسان. وقد استخدمت لتدمير الاتحاد السوفيتي السابق من الداخل حتى انهار عام 1991 وانتهت القطبية الثنائية وبرز مفهوم الهيمنة الأمريكية الذي سعى لتأكيد سطوته واستمراريته، وابتكر نظريات جديدة، وفي مقدمتها نظرية صراع الحضارات لعالم السياسة الأمريكي صامويل هنتنجنتون، ونظرية نهاية التاريخ لعالم السياسة الأمريكي من أصل ياباني فرنسيس فوكوياما، وعالمة السياسة الوزيرة المشهورة كوندليزا رايس صاحبة نظرية الفوضى الخلاقة، وهي إعادة صياغة لمفهوم قديم كان أول من ابتكره الزعيم السوفيتي ستالين في مقولة إن «العجة الكبيرة تأتي من تكسير اكبر عدد من البيض»، وهكذا سعى ستالين للتحريض ضد الغرب مستغلاً ثورات المستعمرات، ومن ثم أدى ذلك لتدمير الإمبراطوريات، الاستعمارية وبخاصة الفرنسية والبريطانية ومحاصرة الإمبراطورية الأمريكية الصاعدة آنذاك.
نقول سعت نظرية الفوضى الخلاقة لتدمير الدول القائمة، خاصة في الشرق الأوسط الذي وجدته عصياً على التطور بالمنهج الغربي عامة والأمريكي خاصة، كما وجدته أيضاً عصياً على الانضباط وقابلاً للتمزق والانقسام منذ أن تم أول تقسيم حديث له في إطار اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 في إبان الحرب العالمية الأولى، والتي مزقت الإمبراطورية العثمانية الاستعمارية الظالمة، رغم رفعها شعار الدين.
وسعت النظرية الجديدة لإقامة ما أطلق عليه الشرق الأوسط العريض بهدف تمييع الشخصية والهوية العربية، واستخدمت الطاقات الشابة والمرأة والأقليات لتحقيق هذا الهدف في تدمير الدولة الوطنية، عبر تدمير مفهوم السيادة، وساعدتها في ذلك أفكار تقليدية سعت لإحياء مفهوم الدولة الدينية، الذي عفا عليه الزمن وتجاوزها، ضد مصلحة الدولة المدنية الوطنية الحديثة، وقد كان آخر وجود لمفهوم الدولة الدينية، هو الخلافة العثمانية التي تم إسقاطها على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924 تماشياً مع الفكر الأوروبي الحديث بمدنية الدولة أو ما سمى علمانيتها، أي قيامها على أساس علمي، وأساس غير ديني باعتبار الدين جزءاً من ثقافة المجتمع، وليس جزءاً من النظام السياسي المدني الحديث. وفي ظل التخلف في المنطقة الشرق أوسطية، تم خلط الأمور واستغلال الدين لمصلحة السياسة وسارت الشعوب مغمضة عيونها وعقولها وراء دعاوي الدين أو المذهب، وكان ذلك أحسن وصفة سياسية لتدمير الدول الكبيرة وتمزيق وحدتها.
كما أطلق شعار حقوق الإنسان، وهو كلمة حق أريد بها باطل، لتدمير الدول العصية على المبدأ المشهور الذي أطلقه المفكر الجزائري مالك بن بني لتوصيف الحالة السياسية للدول الخارجة لتوها من الاستعمار، وهو ما أطلق عليه مبدأ القابلية للاستعمار، والذي يمكننا إعادة صياغته معدلاً بالقول بمبدأ رفض القابلية للاستعمار، أي الاعتراض عليه، ولو جزئياً.
من هنا جرى إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، وهو ما يجري تنفيذه الآن. ولعلنا نشير لبعض البحوث التي نشرت منذ حوالي خمس سنوات في مجلة الفورين افيرز الأمريكية ومجلة الأمن القومي، وهي أيضاً دورية أمريكية، ودراسات أخرى عديدة ومعظمها بحوث أمريكية، وكان لها مفكروها مثل الباحث المرتبط بالاستخبارات الأمريكية جين شارب، وكتبه العديدة المنشورة على مواقع الإنترنت حول كيفية بناء الديمقراطية والتخلص من الديكتاتورية والذي وضع وصفة لما اسماه العصيان المدني ضد النظام وتدميرها وهو من الناحية العملية كان وصفة لتدمير الدول وتجزئتها إلى دويلات صغيرة متصارعة في مرحلة تاريخية يتحرك العالم بأسره نحو التكتل والاتحاد رغم الصراعات التي سادت بين دوله وبخاصة الدول الأوربية لعدة قرون بل تسعي الدول المتنافسة مثل أمريكا والصين وروسيا واليابان لضبط علاقاتها في إطار التنافس دون الدخول في حروب قومية أو دينية أو طائفية وبناء علاقاتها على أسس اقتصادية كما في منظمة الآسيان بين دول جنوب شرقآسيا ومنظمة شنغهاي للتعاون لمقاومة الإرهاب، ثم اتجهت للتعاون الاقتصادي وتجمع آسيا الباسيفيكية الذي يجمع بين صفوفه أكبر القوى العالمية المطلة على آسيا والمحيط الهادي بغض النظر عن خلافاتها السياسية والإيديولوجية وتنوع أعراقها ودياناتها، ومع ذلك وجدت التعاون والتوحد سبيلاً.
في حين ما يحدث في الشرق الأوسط أن يتمزق تحت دعاوى دينية أو طائفية أو عرقية بعكس التيار السائد في الساحة الدولية، أي أن الشرق الأوسط وبخاصة العالم العربي، يسير عكس منطق التاريخ حيث تسعى دول المنطقة تحت المؤثرات والمصالح الإقليمية والدولية لتصبح أكثر ضعفاً على ضعفها الراهن.
... للحديث بقية