أن يتواجد شعب البحرين كله بمختلف فئاته وأطيافه وتوجهاته في قرية عالي لأداء واجب العزاء لعائلة آل عصفور بوفاة عميدها الشيخ أحمد بن خلف العصفور؛ فهذا يعني أمرين أساسين؛ الأول هو أن كل ما حدث في السنوات الثلاث الأخيرة، رغم قسوته، لم يغير من أخلاق أهل البحرين وأطباعهم وتلاحمهم وطيبتهم، والثاني هو أن وسطية الفقيد جعلت الناس يتخذونه مثالاً ونموذجاً حتى بدوا كأنهم جاؤوا يبحثون عن البديل الذي يمكنه أن يمارس نفس النهج ويقوم بنفس الدور الذي كان يقوم به، حيث عرف أنه ظل وسيط خير وجسراً لا يهتز بين الدولة والناس حتى آخر أيامه.
أيضاً تدفق هذا العدد الكبير من المواطنين والمقيمين لأداء واجب العزاء والذي نتج عنه تعطل الشوارع القريبة وتوفير مزيد من رجال المرور وشرطة المجتمع للتنظيم والتسهيل على المعزين كان بمثابة كرامة لهذا الشيخ الجليل والمعلم الكبير الذي كان يهتم في خطبه دائماً بأهمية أن نتفق بدل أن نختلف ولم يكن يفرق في حبه للناس بين منتم إلى مذهب ومنتم إلى مذهب آخر، فقد كان يطرح نفسه على أنه للجميع وكان يؤكد أن الإسلام للجميع وأنه يكفي أن تكون مسلماً لتكون قريباً من الله سبحانه وتعالى.
مرات كثيرة صليت الجمعة خلفه ولفتني في خطبه أنه يبتعد عن التوجيه المباشر؛ فقد كان يفترض ذكاء المتلقي ومتابعته لشؤون الدين والدنيا فيوفر المقاربات التي تعينه على توصيله فكرته ورأيه وما يعينه على إقناع المتلقي بهما.
ورغم تسليمه الراية لابنه الشيخ ناصر الذي خلفه في خطبة الجمعة وإمامة المصلين إلا أنه ظل يحرص على الحضور والصلاة بإمامة ابنه فيتوجه إليه المصلون في ختام الصلاة للسلام عليه تقديراً له وتعبيراً عن محبتهم له.
قبل نحو أربعة شهور سألني صديق كان يرافقني إن كان الشيخ يعرفني فقلت أشك في ذلك، وعندما سلم عليه صديقي قال له إن صاحبي هذا يعتقد أنك لا تعرفه، فرفع رأسه وقال مبتسماً بل أعرفه، ثم عندما وجد السؤال في عيني وكأنني أتحدى ذاكرته قال لي أنت فلان، وذكر اسمي كاملاً قبل أن يضيف من الكلام الزين ما لا يسمح المقام بذكره.
المرة الأخيرة التي التقيت فيها الشيخ -رحمه الله- كانت قبل حوالي شهرين في مجلس شقيقه الشيخ عبدالحسين بن خلف العصفور، حيث فوجئت به متابعاً للأحداث المحلية والعربية، ويناقش ويبدي رأياً وإن كان بصوت متهدج بحكم التقدم في العمر، وكان كما هو دائماً محباً للجميع ومشجعاً على حب الحياة وحب الآخرة.
في خطبه كان يهتم بالتأليف بين القلوب، وسمعته ذات مرة يقول في إحداها إن على المسلم أن يستجيب لنداء الله أكبر فيتوقف عند أقرب مسجد ليصلي من دون أن ينظر إلى أن هذا المسجد يتبع أهل هذا المذهب أو ذاك، ما بدا وكأنها فتوى بأنه ليس مهما في أي مسجد تصلي وخلف من، فالمهم والأهم هو أن تؤدي واجب الصلاة التي هي عمود الدين، وفي هذه رسالة بليغة وتوجه وسطي أكده في مرات عديدة عندما يأتي في خطبه على ذكر زوجات النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يفرق بينهن ويسبغ عليهن جميعهن من دون استثناء العبارات التي يعلي بها من شأنهن فهن حليلات أشرف خلق الله.
البحرين فقدت عالماً جليلاً ورجلاً وسطياً ومثالاً ونموذجاً يصعب تعويضه، أكرمه الله بحب الناس في حياته وبخدمتهم، فجاؤوا يوم وفاته متسربلين بالحزن ومؤملين أن يعوضهم الله سبحانه وتعالى من يمكنه أن يواصل دوره، وإن لن يتمكن من الوصول إلى مكانته العلمية والمجتمعية.
اللهم ارحمه وامسح على قلوب أهله ومحبيه وعوضهم خيراً.