المرآة والكاميرا اختراعان استلهمهما الإنسان من عالم السحر. وعالم السحر هو عالم الاكتشافات والتحولات. ومنذ اللحظة التي وقع الإنسان فيها في غرام نرجسي مع صورته المنعكسة على صفحة الماء وهو يعشق ذاته ويعتني بها. يريد اكتشافها ويتابع تحولاتها باهتمام وينشغل بتقديمها للآخرين في صورة هي أفضل مما تبدو عليه.
لكل واحد منا قصصه الخاصة مع المرايا. إنها ثاني مخلوق يعرفنا جيداً بعد أنفسنا. إنها تعرف صورنا الحقيقية حين الاستيقاظ من النوم، وهي من يساعدنا في إنتاج الصورة النهائية قبل الخروج من المنزل. وكم شاركتنا المرايا لحظات الضحك والبكاء، وكم شاهدتنا ونحن نعاني من الوجع والمرض أو نستعد لاستقبال الفرح. وددت يوماً لو أني كنت أمتلك مرآة واحدة وقفت أمامها في سنواتي الماضية كلها وفي أحوالي المتعددة كافة، ثم وددت لو أن سطح المرآة يتحول إلى شاشة عرض تمر فيها كل صوري السابقة بكل تحولاتها، كنت سأتابع تطور شكلي وتغير ذوقي في اللبس والتزيين، وكنت سأقرأ جيداً حالتي المزاجية والصحية وسأتذكر سريعاً كل ما مررت به من فرح وحزن. ومنذ صغري كانت تراودني رغبة غريبة، فحين أفقد شيئاً في غرفتي أو يحدث شيء لا أعرفه كنت أيمم بصري نحو المرآة وكنت أتمنى أن تنطق كما في الحكايات الخرافية وتكشف لي كل ما حدث، فأنا واثقة أنها الشاهد في غيابي وأنها سجلت كل شيء وأنها دائماً تعرف أكثر مما أعرف. المرآة اختراع سحري مبهر، فأنت ترى نفسك بكليتك كأنك إنسان آخر وحين تحلق طويلاً في نفسك يدب شيء من الرعب فيك وتشعر أنك قد تدخل في دوامة جنون. فما طبيعة العالم القابع خلف المرآة؟ وماذا لو اخترقتَ المرآة ودخلت لتقابل نفسك؟ هل كنتما ستتحاوران أم ستنعكسان مرة أخرى داخل عالم المرآة؟
مرآتي الجديدة التي لا يعرفها أحد هي كاميرا هاتفي الجوال. فوسط زحمة الناس والعمل واستغلال للحال الذي صار الهاتف لا يغادر أيدينا، أسترق النظر عبر الكاميرا لأطمئن على شكلي دون أن ألفت الانتباه إلي. واختراع الكاميرات بأنواعها هو استمرار للحالة النرجسية التي وقع الإنسان فيها معجباً بنفسه، فبعد أن اكتشف صورته وجمالها عبر المرايا وتعلم كيف يعتني بمظهره، راوده الحلم القديم في تخليد ذاته وحفظ ذاكرته. فصور اللحظات التاريخية في حياته وصنع الأفلام الموثقة لنمو أطفاله وتطورهم. وتقف تلك الصور والأفلام أمامنا وقفة مفارقة قاسية حين ننظر إلى حبيب يتحرك ونسمع صوته في الوقت الذي يكون قد غادر الدنيا أو صار محض الذكرى، وقد تشتد القسوة أحياناً حين يرى الإنسان نفسه في تاريخ ما يتمتع بالصحة والعافية ويقفز في الصور والأفلام ويضج سعادة في اللحظة التي يقعده فيها المرض أو يعجزه كبر السن. تسجيل الحياة وتغليفها ليس مريحاً دائماً، والنظر إلى الخلف يشبه النظر من فوق قمة إلى أسفل شاهق، إنه شعور مخيف. نحن نتغير ونتحول بسرعة وأحياناً بمنطق انقلابي لا يعرف للانتظام قاعدة.
وآخر ما اهتدت إليه النفس البشرية أن تجعل من الصور الثابتة والمتحركة أداة تعبر فيها عن أعماقها بعد أن استغلتها عقوداً طويلة في عكس صورها وحفظها. فشبكات التواصل الاجتماعي تضج بالصور المختلفة والمتعددة التي تكشف طبيعة كل صاحب صورة. فثمة من يعشق أن يخبر الآخرين بتفاصيل حياته الخاصة وبكل موقع يتحرك فيه وكل وجبة يتناولها وكل محل تجاري يتسوق فيه. وثمة من يحب أن يعرض صوراً وأفلاماً تعبر عن أفكاره ورؤيته للحياة. وثمة من صار ينافس الإعلاميين في استباق عرض الأحداث أو تأسيس ما يشبه وسيلة إعلام خاصة يبث عليها آخر الأخبار المصورة والآراء. وثمة من عرف كيف يستغل عالم الصور في المتاجرة وكسب المال. وآخرون أبدعوا في الفبركة والاحتيال. كلها أساليب عكس فيها الإنسان صورته الداخلية وطبيعة شكله في العمق دون أن ينبري متحدثاً عن نفسه ودن أن يكتب سيرته الذاتية. إنه إبداع العقل في استثمار مبادئ علوم السحر في الكشف والتحويل.
المرايا والعدسات، الصور الباقية والمختفية، الصورالثابتة والمتحركة، كم تحبس من حياة مرت وانقضت وكم تنتظر أحداثاً يكتمها الغيب عنا. لو قدر للمرايا يوماً أن تنطق ماذا كانت ستقول لأصحابها؟ ولو خرج أصحاب الصور، بعد أمد، من حبسهم كيف كانوا سيتصرفون؟ إنه السحر الذي خيم بأدواته وإمكاناته على المخيلة البشرية فأنتجت اختراعات تناغي الوجدان البشري الجمعي البدائي بكل بساطته وتناقضه وشراسته أحياناً.