الحياة لا تتوقف، والمشاغل اليومية عند كل إنسان تتحرك مع تنفسه، فما أن ينتهي من عمل إلا وبدأ له عملاً آخر في الظهور، وكلنا يتصور أنه إذا ما تقاعد فإنه سوف يتوقف عن الانشغال ويحصل على وقت يوفر له المزيد من فرص اللقاء بالأهل والأصدقاء، ولكن بعد التقاعد يشعر أنه أصبح مشغولاً أكثر من فترة العمل الماضية.
كلنا يعرف أن طبيعة الحياة الجديدة التي نعيشها الآن اختلفت بنسبة 180 درجة عن الفترات القديمة، أو كما يطلق عليها البعض «الزمن الجميل».
في وقت الصبا كنا نزور أهلنا في الحد والمحرق وأم الحصم، معتمدين على باصات النقل العام والمشي سيراً على الأقدام، وحينما كبرنا بعض الشيء بدأنا بالتعامل مع السياكل «الدراجات الهوائية»، لم يوقفنا برد الشتاء ولا حر الصيف عن مواصلة هذه الزيارات الأسبوعية، هل كان ذلك بسبب كوننا نملك الوقت؟
قرأت في أحد الأماكن أنه باستطاعتك أن تبحث كل يوم عن الإثارة التي ربما تحدث في عالم الاحتمالات، حينما تجرب وتعيش حالة اللايقين فإنك على الطريق السليم، لذا عليك أن لا تتخلى عنه، أنك لست بحاجة إلى أفكار وتصورات كاملة ومحددة جداً لما عليك أن تعمله في الأسبوع القادم أو السنة القادمة، لكون أنه لو كانت لديك فكرة واضحة تماماً بصدد ما الذي سيحدث وكنت متمسكاً بتلك الفكرة فإنك ستغلق أبواب الاحتمالات بشكل كلي، أحد سمات أو خصائص حقل الإمكانات هو التبادل والتعاون السرمدي، ذلك الحقل يمكنه أن يؤلف وينظم أحداث الزمان اللامح دودة ليأتي بالنتائج المقصودة والمرجاة.
لكن حينما تكون متعلقاً في رغباتك فإن مقاصدك ونواياك ستصطدم بوضع ذهني متيبس وستفقد رشاقة التفكير، الخلق، الإبداع، العفوية التي ينطوي عليها ذلك الحقل، حينما تكون متعلقاً جداً برغباتك فإنك ستمسخها من حالة الميوعة والمرونة اللامحدودة إلى هيكل عمل متخشب يتعارض مع عملية الخلق بأسرها.
قبل مدة، وفي عزاء أخت الفنان الممثل مبارك خميس، التقيت بابن الفريج، فريج الفاضل، والجار في مرحلة الخمسينات، محمد عبدالرحمن تقي، ونحن نتحدث عن العلاقات الاجتماعية والمواجب وعن اعتذارات الناس بالانشغالات اليومية، قال لي محمد تقي قصة جميلة عن أحد الأشخاص، الذي كلما سألوه، قال إنه مشغول وأن عليه أن ينهي أعماله وينجزها، صديقه قال له: تعال معي، أخذه إلى المقبرة وقال انظر إليهم، قال: ماذا بهم؟ قال له صديقه: كلهم ماتوا ولم تنته أعمالهم.
الزيادة من هذا الكلام أن تبريراتنا التي نسوقها في كل يوم ما هي إلا تبريرات واهية، وقد أقول عنها تافهة، لأنها تبعدنا عن ذاتنا الحقيقي، الذات التي جاءت إلى العالم لكي تقوم بدورها وتؤدي مهمتها الأولى، وهي إعمار الأرض، وإعمار الأرض لا يمكن أن يتم دون العلاقات الاجتماعية، التي شكلتها منذ مراحل الإنسان الأولى طبيعة الحياة الفطرية. من هنا أقول ربما تكون لدى البعض منا أكثر من أن ينجزها، وذلك بسبب عدم وجود التخطيط لإنهائها في وقتها المطلوب، وعدم تمكن أي إنسان بإنجاز مثل هذه المهام يعود بسبب تأجيلها إلى يوم آخر. من هنا أرى ضرورة أن يقوم الإنسان بدوره الكامل، لا يترك أية دعوة فرح، لأنه بذلك يكاثر من المحبة والسعادة، ليس لأهل العروسين فحسب، إنما في العالم، وعليه أن يقوم بأداء الواجب في العزاء، لأنه يساهم في زيادة رقعة الرحمة لهذا الراحل عن الدنيا، ومن قام بالدعاء لغيره فان الكون وما فيه من كائنات ومخلوقات تقوم بالدعاء له. قم الآن بتنظيف دفاترك القديمة، اشطب الأمور التي لا داعي لها، اشطب الأعمال التي أنجزتها ومازالت موجودة في دفتر ملاحظاتك القديمة، اشطب كل شيء، وتواصل مع آهلك.. الآن قم بذلك.