لم تمر الثورة الفلسطينية منذ إطلاق رصاصتها الأولى عام 1965 بمثل هذه الأيام العصيبة، والتي لا تنبع صعوبتها من استمرار وحشية وعنجهية الاحتلال الإسرائيلي وتبعاته المعقدة؛ بل أيضاً من الوضع الداخلي الفلسطيني المتشرذم، والذي استباحت ظلاله الثقيلة كل شيء ولم تستثن حتى قدسية الكفاح وحرمة الدم الفلسطيني.
أصبح الفلسطينيون في الداخل المحتل والشتات في خضم هذه النازلة الوطنية يبحثون عن حكمة وحنكة ووطنية «الختيار»، الذي ترجل تاركاً فراغاً عقمت كل الحركات والتنظيمات والأحزاب من بعده أن تسدد وتقارب بشخصية تحمل ذلك الخليط من الذكاء والحنكة والدهاء والوطنية، والتي قربته من قلوب الفلسطينين حين توجوه رمزاً لقضيتهم بعد أن رفع بندقية الثائر بيد وغصن الزيتون بيده الأخرى، محذراً العالم أن لا يسقط الغصن الأخضر من يده.
دوي التصفيق الذي انطلق في قاعة الأمم المتحدة انتقل لشعوب العالم التي عرفت، وما زالت تعرف، فلسطين وقضيتها من خلاله، وظلت تحمل صورته كلما أخرجتها مذابح إسرائيل متضامنة، حتى في العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، حملت شعوب أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا صور «الختيار» بكوفيته وابتسامته رمزاً لغصن الزيتون، وبدلته العسكرية رمزاً للبندقية.
كان في التاريخ الفلسطيني المثخن بالنكبات والنكسات والمذابح بارقة أمل حملها «الختيار»، والذي مافتئ يؤكد أنه سيجمعنا للصلاة في قدس الأقداس، هذه البارقة التي بدأت تخبو شيئاً فشيئاً عندما لم يكتف «مناضلو الفنادق» من تدنيس تاريخ النضال الفلسطيني؛ بل ونقلوه إلى صراع لإرضاء امتداداتهم الإقليمية، مستعيضين بها عن قواعدهم الشعبية في الداخل والمهجر.
فتحولت فلسطين من محور اتفاق عربي اجتمع حول كل قرار داعم ومناصر له تاريخياً ألد الخصام، إلى فرصة لتصفية الخلافات العربية – العربية ودفع الفاتورة عبر الدم الفلسطيني، وبعد أن كانت المصلحة الوطنية الفلسطينية وحدها من يحدد موعد المواجهة وكيفيتها، أصبحت المصالح الإقليمية وأدواتها معياراً جديداً لموعد المجزرة التالية، والتي يحول بها الوكلاء ممن منحوا رتبة وكيل بدرجة مناضل أنظار العالم عن ملفات وصراعات هنا أو هناك.
الفلسطينيون وحدهم من يجب أن يقتل لتخفيف الضغط عن ملف إيران النووي والوضع المتفجر في سوريا ولبنان تارة، ولمنح أدوار البطولة لقطر وتركيا وتتويجهما كقوة إقليمية جديدة، ولتفريغ طاقات وأحقاد ميلشيات طائفية في العراق وسوريا تارة أخرى..
وتبعاً لكل تلك المصالح المتضاربة تم رهن أنهار الدم الفلسطيني لمن قدم «غرفتين وصالة» في دمشق وبضع ملايين من الدولارات الإيرانية، ليتحول الثمن الجديد إلى «فيلا» في الدوحة يمكن أن يأمر المالك بإخلائها خلال ساعة من عدم انصياع المستأجر لشروطه وأوامره. فيما عمد الطرف الآخر من وكلاء النضال إلى بيع قرارهم مقابل سلطة وهمية لا تتجاوز صلاحيتها حدود المقاطعة، وفي انتظار مزايدة جديدة سيبقى الدم الفلسطيني يسيل أنهاراً.
رحم الله «الختيار»؛ جاب العواصم شرقاً وغرباً فكان سيد قراره ولم يرتض تأجير بندقيته وبيع دم شعبه، تشهد على ذلك عمان ودمشق وبيروت وتونس ورام الله التي رددت صدى صوته «بل شهيداً.. شهيداً.. شهيداً»، فظل رافعاً راية الصمود إلى أن قدم روحه قرباناً ليبقى القرار الفلسطيني مستقلاً.
ورق أبيض..
على كل «الحنجورية» الذين زايدوا على الختيار وحاولوا التطاول عليه أن يستلهموا الدروس والعبر من سيرته وتاريخه ونضاله، وإن كان بعض تلاميذه ورفاقه قد نكصوا عهده؛ فلا ذنب لموسى بما اقترفه السامري ولا لعيسى حين خانه يهوذا.