جزء كبير من حالة عدم الاحترام التي طرأت على العلاقة بين دول كثيرة مع القوة العظمى الأولى حتى اليوم «أمريكا» هو أن هذه الأخيرة أصبحت شبه عاجزة عن القيام بحروب كبيرة، حتى مع امتلاك القوة لذلك وامتلاك التكنولوجيا الحربية وامتلاك الجيوش.
تعاني أمريكا اليوم من عدم الاحترام من أطراف كثيرة؛ ليس لشيء سوى أن هناك من أدرك بأن أمريكا تملك القوة، لكن لا تملك استخدامها كما كانت تفعل في الثمانينات والتسعينات.
العراق مثال أخير وقبله ليبيا «رغم قتل السفير الأمريكي، ورغم عملية الاختطاف التي قامت بها أمريكا مؤخراً لمن قام بقتل السفير كما تدعي» وفي أوكرانيا يحضر مثال للضعف الأمريكي وقوة الموقف الروسي.
هذا الاستعراض ليس لشيء إنما لتتضح الصورة التي أنا بصددها، وهي أن جزءاً كبيراً من احترام العالم ومن احترام الداخل «الوضع الداخلي للدول» يأتي من هيبة القوة، حتى وإن كانت أمريكا ظالمة، إلا أن لها هيبة ولها احتراماً «وربما يخاف البعض منها ويمتثل أليها وهو كاره لها» لأن القوة فرضت نفسها، وحضر امتلاك استخدام القوة ببطش أحياناً.
ذهبت بعيداً من أجل القريب، فحين نمتلك كدولة الحق والعدل والقانون، فإن القانون يحتاج إلى قوة التنفيذ الفعلية على الأرض، فإن لم يمتلك القانون ذلك فلا قيمة للحق، ولا قيمة للعدل، ولا قيمة للقانون.
تخيلوا لو أن هناك قاضياً ما في دولة ما أصدر حكماً عادلاً وأنصف فيه طرفاً ضد آخر، غير أن هذا القاضي لا يمتلك قوة تنفيذ الحكم القضائي، فإن هذا الحكم سيبقى حبراً على ورق، وسيبقى الحال في الواقع كما هو، ذلك أن الحكم القضائي ليس لديه قوة التطبيق على الأرض، أو كما يقال «أداة تنفيذ القانون» فيصبح حكماً قضائياً من غير قوة التنفيذ، لا قيمة له، وكأنه لم يكن.
إذا أردت أن تكون لك هيبة، فإن أول الشروط أن تكون صاحب حق وأن تكون عادلاً، وإن امتلكت الاثنين، فإنهما من غير قيمة حقيقية على أرض الواقع إن لم تمتلك القوة، فلا خير في حق ليس له قوة، ولا خير في عدل لا تملك أن تدافع عنه بالقوة.
عندها يصبح الحق باطلاً، فالباطل حين يمتلك القوة يسود على الحق، وهذا ما تم فعلاً في مثل أمريكا، فهي كانت ظالمة في أغلب حروبها، إلا أنها كانت تملك القوة وإخضاع الغير لها، من هنا أصبح الجميع يهاب أمريكا حتى وهي ظالمة، ونحن لسنا مع الظلم أبداً، إلا أن القوة جعلت من الظلم وكأنه هو العدل وهو الأصل، وهو الواقع الذي يفرض بالقوة ليس إلا أن الظلم امتلك القوة وامتلك أداة التنفيذ.
حين نصبح كدولة نمتلك الحق ونمتلك القانون، بينما لا نمتلك التنفيذ ولا نمتلك قوة التطبيق على الأرض «وهذا حدث ويحدث في بعض القوانين» فإن هذا الحق يصبح باهتاً ومن غير قيمة، بينما تهتز صورة الدولة ومكانتها لدى المحب المخلص قبل الحاقد العميل.
دروس كثيرة مرت علينا، ونحن نعرف كل الذي كان يحاك ضدنا كدولة، ففي فترة ما سكتنا عن تطبيق قوانين كثيرة، وعطلنا حكم الله في خلقه وفي القصاص «كمثال» من أجل أن تمر العاصفة، وقد يكون في ذلك بعض الحكمة في ذلك الوقت، إلا أن شرع الله يجب أن ينفذ ولو بعد حين، وعدم تنفيذه إنما هو ظلم للآخرين، وتعطيل لحكم الله في الأرض، وإضعاف للحق، وإضعاف لسلطة القانون وقوة القانون.
ما يحدث للعراق اليوم، إنما هو تنفيذ للمشروع الأمريكي، هذا ما أتي به الاحتلال الأمريكي للعراق بمساعدة دول الخليج، وهذا فعلاً ما تريده أمريكا من تناحر واقتتال بين الطوائف، وصولاً لتقسيم العراق على أساس طائفي مذهبي وعرقي، وهو أساس المشروع الأمريكي للمنطقة.
من هنا هل كان هذا ما كانت تريده أمريكا أن يحدث لنا في 2011 حين أرادت أن يتم مشروعها للتغيير في الخليج من بوابة البحرين، بمساعدة بعض الخليجيين، ومن بعد أن دربت المتطرفين في البحرين على التغيير؟
هل كانت تريد أن يحدث هذا الاقتتال «الذي نراه في العراق» أن تكون البحرين أرضاً له، وبالتالي يمكن التدخل في البحرين «أممياً» وفرض ما تريده أمريكا وفرض مشروعها، وهو تنصيب وتمكين الشيعة المتطرفين كما حدث في العراق وإقصاء المكون الرئيس من اللعبة؟
نعم كانت هناك حكمة بالغة لدى القيادة في البحرين حين وفقها الله وألهمها أن تتخذ قرارات بعينها جنبت البحرين الاقتتال الذي كانت تسعى إليه الأيادي الخائنة التي تنفذ المشروع الأمريكي بالمنطقة، ونحمد الله أن رب العباد حفظ البحرين حين ألهم قيادتها بهذه القرارات، غير أن هذه المرحلة تكاد تنتهي اليوم، وهذا يعني أننا اليوم بحاجة إلى أن نستعيد ما عطلناه بيدنا من أجل أن تمر العاصفة.
أي دولة تتخلى عن قوة الحق وعن قوة القانون إنما هي تضع مصيرها على كفها، أو تضع مصيرها لدى الآخر، فحين تطبق قوة الحق بالقانون يخضع الجميع لسيادة الدولة، ويحترمها المحب والخائن معاً، حتى الذي في قلبه مرض، سيؤجل ما يريد أن يقوم به إلى وقت آخر يشبه استغلال توقيت الأحداث في 2011 عربياً.
من هنا فإننا في تقديري «ونحن نطرح رأياً شخصياً ليس إلا» نحتاج اليوم إلى أن نجعل للحق قوة، وأن ننفذ ما عطلناه من أجل أمور خارجية وداخلية، فجزء كبير مما حصل ويحصل لنا إنما هو استهتار بقوة القانون، وقوة التطبيق، وقوة التنفيذ، وهذا مقوض لمقومات الدولة القوية ذات السيادة.
لا يوجد جهاز يكشف نوايا القلوب، لكن الله أرسل لنا ما يكشف النوايا حين جاءت المحنة، وهي في الحقيقة منحة من الله لنرى بأم أعيننا تلك النوايا وتلك القلوب، غير أن من الحكمة أيضاً، ومن العبرة أن نتعلم مما جرى، ونخطط لمستقبلنا بناء على ما حدث، وإلا فإن ما حدث سيحدث بشكل أقوى إن لم نتعلم ونستخلص الدروس من بعد أن كشف الله لنا حقيقة النوايا، ومرض القلوب.
القوة في كثير من الأحيان تعني الاحترام، حتى وإن كانت من غير حق، بمعنى أن الناس تهاب وتخاف القوي حتى وإن لم يكن ذا حق، ومثال أمريكا ليس ببعيد.
لكننا نريد الحق الذي له قوة التنفيذ، نريد الحق والعدل، ونريد القوة التي تحفظهما وتجعل القريب والبعيد يحترمنا، وتجعل من كان يتخذ خطوات متقدمة للوصول إلى أطماعه، يتقهقر ويتراجع وينكفئ وينحسر ويخبو صوته، ويتقزم إلى حجمه الطبيعي، وينصاع إلى إرادة القانون، وسيادة الدولة.