كثيرون في الخليج العربي لا يعرفون عن جمهورية التشيك سوى مصحاتها الطبية الرائدة، ومستشفياتها الشهيرة في علاج الكثير من الأمراض المستعصية. ولكنهم لا يعرفون ميلان كونديرا، الفيلسوف التشيكي الشهير الذي ولد في العام 1929!
هذا الفيلسوف التشيكي الشهير ولد بين أسرة فنية مميزة، احترفت علوم الموسيقى والفنون والآداب، وهو ما دفعه لدراسة الأدب والسينما والموسيقى وعمل أستاذاً في أكاديمية براغ للفنون. وانخرط كونديرا مبكراً في الشأن السياسي، حيث كان عمره 19 عاماً عندما التحق بالحزب الشيوعي الذي فصل منه مرتين.
البعض يعتقد أن ما يسمى بالربيع العربي هو الأول من نوعه، ولكنه تاريخياً الربيع الثاني، وهناك قبله أيضاً ربيع براغ الذي كان للفيلسوف والأديب كونديرا دوراً هاماً فيه.
في ربيع براغ الذي بدأ في الخامس من يناير 1968 وصل إلى السلطة في التشيك القائد الإصلاحي ألكسندر دوبتشيك وقرر القيام بإصلاحات واسعة، وألهمت أفكار كونديرا الحركة الطلابية النشطة آنذاك. ولكن الاجتياح العسكري للقوات السوفييتية في 21 أغسطس 1968 أنهى ربيع براغ بعد أن دام نحو 8 شهور فقط.
نتيجة لنشاطه السياسي وأعماله الأدبية وأشهرها كتاب غراميات مضحكة أدت ظروف ما بعد ربيع براغ إلى إسقاط الجنسية عن كونديرا في العام 1978 ليصبح بدون جنسية. وهو ما دفعه إلى الهجرة إلى فرنسا التي نال جنسيتها في العام 1981 وأصبح كاتباً عالمياً.
فرنسا التي لجأ إليها كونديرا آنذاك كانت تفتخر كثيراً بأنها تحترم مواطنيها وترفض المساس بجنسيتهم مهما ارتكبوا من أفعال. ولم يدر بخلد كونديرا نفسه أو حتى السياسيين الفرنسيين أنه بعد 30 عاماً من تجنيس الأديب والفيلسوف العالمي سيقر البرلمان الفرنسي تعديلاً قانونياً يسمح إسقاط الجنسية الفرنسية عن المواطنين الفرنسيين في حالة إدانتهم بقتل شرطي، وهو ما تم في سبتمبر 2010، أي قبل 3 شهور فقط من اندلاع ما يسمى بالربيع العربي.
فرنسا التي رفضت طوال عقود طويلة المساس بجنسية مواطنيها اضطرت في النهاية، في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، إلى إقرار إسقاط الجنسية الفرنسية عن جميع من يستخدم العنف ويعتدي على الشرطة أو موظفي الحكومة. فماذا تغيّر في فرنسا طوال هذه الفترة؟
أدركت باريس أن الحريات المطلقة ليست مطلقة، ولا يمكن مواجهتها وخسارة مكتسبات الأمن والاستقرار بمثل هذا الفراغ القانوني. وذلك بعد أن شهدت بعض المدن والمناطق الفرنسية أعمال إرهاب ومواجهات عنيفة مع رجال الأمن، واعتداءات وتخريب وحرق الممتلكات العامة والخاصة. بهذا صارت التشريعات الفرنسية تسقط الجنسية عمن يعتدي على رجال الأمن وموظفي الحكومة، وكذلك من يمارس الأنشطة الإرهابية ويسيء للدولة.
لذلك ليس غريباً على بعض دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية اللجوء لخيار إسقاط الجنسية كجزء من منظومة حماية الأمن والاستقرار بعد أن زاد نشاط الجماعات المتطرفة، وزادت أعمال العنف والتحريض والإساءة للدولة.
هذا الخيار لا علاقة له تماماً بحقوق الإنسان، لأن إسقاط الجنسية لا يعني أبداً إسقاط حقوق الإنسان التي توافقت عليها دول العالم، ومن بينها الدول التي أسقطت جنسية بعض مواطنيها لأنهم ارتكبوا أعمالاً مسيئة وأعمالاً ضد حقوق الإنسان فعلاً.