في عام 2008 كانت لي زيارة استطلاعية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، امتدت ثلاثة أسابيع، حظيت خلالها بالعديد من اللقاءات مع سياسيين وأكاديميين ومسؤولين في الحكومة الأمريكية، وفي حصيلة تلك الزيارات، ظلت معلومة كبيرة عالقة في ذهني حدثني بها بعض المناهضين لسياسة الحكومة الأمريكية والنظام القائم هناك، وهي أن الشعب الأمريكي مغيب إعلامياً، وأن هناك شركات كبرى قد تمتلك المئات -لاحظ «المئات»- من وسائل الإعلام الموجهة.. في الواقع كانت هذه المعلومة صدمة كبيرة بالنسبة لي، وكانت السبب الذي أبطل العجب حول قبول شعب بأكمله بسياسة دمار خاصة في زمن بوش الابن، وما تلاها من سياسة نشر الفوضى وتربيط الذيول.
منذ فترة، وقع في يدي كتاب مهم للغاية، كتبه «بيتر فيليبس» وهو عبارة عن تقرير غاية في المهنية والحرفية تحت عنوان «الرقابة والتعتيم في الإعلام الأمريكي».. رصد فيه أهم 25 قصة إخبارية خضعت للرقابة في فترة زمنية معينة، إضافة إلى الأخبار الكثيرة الزائفة التي يتبناها الإعلام الأمريكي وتأثير وكالات الإعلانات على المحتوى التحريري وكذلك تأثير الضغوط الحكومية.
ويتناول الفصلان الأخيران الحديث عن «مجموعة الهيمنة الكونية» وهي مجموعة القيادة التي تشترك في التأكيد على القوة العسكرية الأمريكية في أنحاء العالم، وارتباط هذه المجموعة بالشركات الضخمة في الولايات المتحدة ودعم هذا الإعلام لها، ويكشف الجهات المستفيدة منها.
كما يتناول التقرير الدور الفعال للوبي الإسرائيلي في تشكيل الإعلام وإخماد أي جدل عام ينتقد سياسة مجموعة الهيمنة الخاصة بإسرائيل والشرق الأوسط، كما أفرد فصلاً كاملاً حول وكالة أسوشيتد برس أكبر الوكالات الإخبارية الأمريكية، وقال إنها تمارس التحيز الواضح من خلال تقاريرها التي تبثها من 242 مكتباً في أنحاء العالم على مدى 24 ساعة يومياً إلى 121 بلداً بخمس لغات ويستفيد منها 1700 صحيفة و5000 محطة إذاعية وتلفزيونية.
يقول أستاذ الصحافة بجامعة تكساس روبرت جينسن في مقدمة الكتاب إنه «في مجتمع تتركز فيه سلطة ضخمة في الدولة المعسكرة والشركات الضخمة المتوحشة تكون مهمة الصحافيين واضحة.. النقد الذي لا يعرف الرحمة للنظام القائم.. لكن صحافيي هذه الشركات لا يقومون بهذا الدور لأنهم بلا أسنان.. تشويه صورة الزعماء الأجانب جزء من عملية خلق دعم الجماهير لمثل هذه الأعمال التي تجري بمساعدة وسائل الإعلام الإخبارية».
ونعلق في توصيف هذه الحالة، بأن الشعب الأمريكي «شعب مسكين جداً» لأنه يظن أنه يمارس الحرية والديمقراطية، ولكنه في الواقع داخل قفص غير مرئي، جدرانه مجموعة من الأخبار والمعلومات المفلترة، توهمه أن هذه هي الحقيقة المطلقة!.
لا أزال أبحث عن معلومة أخبرني عنها أحد الأصدقاء، أن الولايات المتحدة سنت قانوناً في الثمانينات يعطي الحكومة الحق في حجب المعلومات المتعلقة بالسياسية الخارجية عن الشعب الأمريكي وأعتقد أنني على وشك الوصول إليها!
- محلياً..
لا نجد عجباً عندما نفهم كيف يمارس السياسيون لدينا سياستهم، ويبطل العجب مجدداً إذا علمنا بعد التسريب الأخير أنهم يتتلمذون في المدارس الأمريكية.. عندها نفهم تفكيك المصطلحات.. فعندما تعلن الوفاق والجمعيات معها قائلة: «لن نشارك في الانتخابات إلا بعد إصلاحات سياسية»، فإنها تعني: «سنقاطع الانتخابات ما لم تقدم لنا الدولة تنازلات تعطينا مزيداً من القوة والسلطة».
عندما تعلن تلك الجمعيات أنها لن تدخل أية انتخابات مقبلة إلا بـ«قائمة وطنية»، فإنها تعني أن «القائمة الإيمانية كانت غلطة طائفية كبيرة كلفت الكثير أمام الرأي العام الخارجي والداخلي وأسقطت الأقنعة، ولذلك ستكون القائمة المقبلة بغلاف وطني، أي سنقدم ذات الوجبة ولكن سنغير الغطاء الخارجي فقط».. وهكذا!.