ضبطت الصين خلال الأعوام العشرة الأخيرة أكثر من مليون قضية فساد بين اشتباه وقضايا واقعة، طبعاً بتباين حجمها من قضايا كبيرة وضخمة إلى قضايا صغيرة جداً، ويندرج تحت هذه القضايا ماله علاقة بالفساد الإداري والمالي، وتمت المحاكمات بناء على ما تقتضيه القوانين وأقرت الأحكام بناء على الممارسات القضائية.
من بين الكم المهول من القضايا (بالنسبة للعدد المذكور) وهو عدد عادي جداً في بلد مثل الصين مواطنوه يقاربون الملياري نسمة تم الحكم بالإدانة في 182 ألف قضية، وتم إصدار أحكام قضائية متفاوتة على 6400 شخص، وألزموا بقضاء مدة المحكومية.
هناك «سيستم» معقد في الصين لاختيار الكفاءات لشغل المناصب بالأخص المناصب العليا والمعنية بإصدار القرارات ورسم السياسات وخدمة المجتمع، ومن فرط قوة ونجاعة هذا النظام وقف أمامنا في جلسة نقاشية يوم أمس بروفيسور صيني رفيع المستوى ليتفاخر بصلابة «السيستم» الذي تقوم عليه العمليات الحكومية في الصين، وكيف أن العدد المذكور إن وضع بصيغة تناسبية فهو يعد من النسب القليلة في العالم.
بيد أن التساؤل الأهم الذي طرح من بين جملة تساؤلات، هو كيف يقيم الصينيون أداء المسؤولين لديهم، وماذا لو ارتكب مسؤول كبير بحجم وزير مخالفات موثقة إدارياً ومالياً؟!
المثير كانت نبرة الثقة بأن مثل هذه الأمور نادراً ما يحدث هناك، فاختيار المسؤولين لا يكون اعتباطاً ولا على غير أساس، وعليه فإن الثقة موجودة دائماً في أي مسؤول يعين بأنه يستحق المنصب ومؤهل لشغله وأنه ملتزم بالمبادئ والأعراف والأخلاقيات التي تجعله بمنأى عن الفساد أو الاستهتار الإداري أو ضعف الأداء. لكن لو افترضنا جدلاً (والكلام للبروفيسور الصيني) بأنه حصل ذلك، فإن العقوبة قاسية جداً، لا مجال هناك للتهاون أو التساهل مع المخطئ خطأ جسيماً، الإبدال سريع، والإقالة أسرع. وهذا يتم بناء على أساس واحد متفق عليه يتمثل بأن التهاون في منصب يمثل مسؤولية تجاه المجتمع يعني خذلان جميع المواطنين، وبالتالي لا يستحق الشخص ثقتهم قبل ثقة الدولة.
ولأجل الرقابة فإن الصين تقابل كل 171 مسؤولاً بعدد قوامه 130 شخصاً يشكل من المجموعات الشعبية يمتلكون حق الرقابة الدائمة على الأداء وحق التقييم، وطبعاً كثرة عدد البشر تساعد، لكن انظروا لحجم الاهتمام بالرقابة وكيف يصل لمستوى يحرص فيه المسؤول على أن يكون عمله متقناً لأنه هناك من هو متفرغ لمراقبته هو وتقييمه دون سواه.
لكن النقطة الأهم التي يتبعها الصينيون في تأهيل وتطوير القيادات ومن ينوون توليته مسؤولية قطاع يخدم المجتمع وفيه مال عام ومسؤولية، تتعلق ببيان مصير من يخطئ ومن يتهاون في أداء مسؤوليته.
شهق جميع الحاضرين دهشة حينما قال البروفيسور الصيني المعني في علم الإدارة والذي كان يتحدث عن النظام الصيني المتبع في تطوير القيادات، حينما قال: قبل التعيين وبعد مشوار طويل من التدريب يتم أخذ الأشخاص المرشحين إلى «السجن»! نعم إلى السجن بحيث يرون الزنزانات ويتم تعريفهم على المسجونين في قضايا متعلقة بالفساد المالي والإداري، ويقال لهم بصريح العبارة: هذا مصيركم إن لم تكونوا أهلاً للمسؤولية!
بين ابتسامة تشفي من البروفيسور الصيني لأن وجوه الحاضرين ومن بينهم عرب «اصفرت» وبين أفكار لحظية راودتني بشأن نجاعة استخدام هذه الآلية، إذ ماذا قبل تعيين الوزراء والوكلاء وغيرهم من مسؤولين، ماذا لو تم أخذهم بالفعل إلى السجون والقول لهم بأن هذا سيكون مصيركم لو لم تكونوا أهلاً للأمانة ولو قمتم بالتطاول على المال العام والتجاوز إدارياً بما يخالف القانون ويحاكم عليه؟!
والله فكرة، وأجزم بأنها لن تزعل أي شخص طالما كان واثقاً من نفسه، وطالما أنه قبل بالمنصب ليخدم البلد والناس لا يخدم نفسه، بالتالي «واثق الخطوة يمشي ملكاً»، وأصلاً وهو الثابت هنا فإن نتيجة أي فساد هي السجن أليس كذلك؟! طبعاً الحكاية مختلفة هنا حينما نتحدث عما تتضمنه طيات تقارير ديوان الرقابة.
فقط الفكرة هنا في إيراد تجارب الآخرين معنية باستخلاص العبرة، أو التفكير في محاولة مقاربة واستخدام آليات استخدمها الغير ونجح، أليس هدفنا في النهاية هو الحد من التجاوزات والفساد والأخطاء؟! أليس هدفنا تعيين الشخص المناسب في المكان المناسب؟! أليس هدفنا دولة قانون ومؤسسات؟! بالتالي العمل على تأهيل الكفاءات وضمان أنها المناسبة للتطوير والإصلاح أول خطوات النجاح، فلا بنيان شاهقاً يصمد إن كانت دعائمه وأساساته هشة وغير صلبة.