قبل عدة أشهر مضت لم نكن ندري ونحن نتجهز ونوضب حقائب السفر للمشاركة ضمن القافلة السياحية العربية المنطلقة من إمارة رأس الخيمة أننا نوضب مع كل ذلك لقاءه ومعرفته أن القدر يسوغ إلينا تمهيداً في التعرف على منطقة شهيد الواجب طارق الشحي مسقط رأسه وملامسة حياته عن قرب.. إنه يحضر لنا إلى جانب إعجابنا ببساطة أهل منطقته وطيبتهم وتمسكهم بالعادات الخليجية الأصيلة إعجاباً آخر ستأتي به الأيام لاحقاً لتعرفنا أكثر على مدى شهامة هؤلاء «القوم» ومدى تمسكهم بأمن واستقرار دول الخليج أيضاً.
لم نكن على انتباه وعلم بتدابير القدر ونحن نجد أهل الإمارات أكثر الشعوب الخليجية التي تتضامن معنا في قضيتنا البحرينية، التي هي بالأصل قضية خليجية ذات أبعاد إقليمية؛ على مواقع التواصل الاجتماعي يدعمون كتاباتنا وآراءنا بأننا نتعرف مع كل ذلك على طارق الشحي رحمه الله بينهم ونراه فيهم!
عرفنا حب طارق للبحرين وأن أهلها غاليين عنده حين قال لنا أحد ممن يتبعون عائلته قبل فترة من استشهاده «أنا أحب أهل البحرين لأني أسمع عنكم بطيبتكم الزايدة وأخلاقكم العالية»، وها هي الأيام تثبت لنا ولهم بأن أخلاقهم وطيبتهم الزائدة هي ما شهدناه نحن أهل البحرين فعلاً وموقفاً لا ما سمعناه عنهم فقط وأننا نحمل نفس النظرة والمشاعر تجاههم! أول مرة دخلنا فيها إمارة رأس الخيمة وصافحنا مناطقها الجميلة البسيطة وأرضها الأصيلة كمثل أهلها كنا يومها نقتحم عالم شهيد الواجب طارق الشحي ونحن لا ندري.
باص القافلة الذي كان يمر بنا على شوارعهم وأحيائهم ومنازلهم راح عنا أنه كان يمر بنا لنطالع طارق.. لنطالع بساطته وطيبته وشموخه ووطنيته الموشومة كمثل العلم الموشوم على جبال منطقة مسقط رأسه!! لم نكن ندري ونحن نصافح حاكم الإمارة صاحب السمو الشيخ سعود بن صقر القاسمي في اللقاء الذي تم بينه وبين الوفود العربية المشاركة في القافلة العربية أننا سنرى طارق الشحي في اللقاء!! سنراه ونلمحه في كلمات حاكم منطقته وهو يخص البحرين بالاهتمام والحديث ويسأل عنها وعن أوضاعها وعن «عين عذاري»!! ويروح يستطرد ويذكر عمق العلاقات التاريخية المشتركة بين البحرين والإمارات.
لم نكن ندري لحظتها أننا نصافح معه طارق الشحي ومع كلماته التي تؤكد أن «البحرين بلد عزيز وغالٍ عليهم» كم قال وصرح! ونحن نودعه شاكرين حسن ضيافته مؤكدين له باسم الشعب البحريني أننا لن ننسى موقفهم ووقفاتهم معنا كشعب ومع البحرين كأن هذا الموقف والكلمات لحظتها رسالة سابقة لنا منهم سبقت فاجعة استشهاد أحد أبنائهم.
رسالة أوصلناها لحاكم إمارته: أننا لن ننسى «ونحن لا ندري أن الأيام قد تذكره لاحقاً بأننا في البحرين نقدر ونثمن جمايلهم ومواقفهم بحدث يوازي ما جاء ضمناً فيها وأننا فعلاً لن ننسى شهيد الواجب طارق الشحي الذي راح مع إخوانه الشهداء من رجال الأمن جراء تفجير غادر لقنبلة محلية الصنع وهو يؤدي واجبه ودوره كرجل أمن يعمل ضمن فرق عمل أمواج الخليج المنبثقة عن الاتفاقية الأمنية الخليجية المشتركة، لحظتها كان يظهر في حديث حاكم إمارته المهتم بوضع البحرين لذا ليس مستغرباً أن يأتي شهيداً من أبناء إمارة رأس الخيمة.
في الوجوه الباسمة التي قابلتنا بحفاوة وحسن الاستقبال كان الشحي يومها يظهر كمثل صوره التي يظهر فيها مبتسماً ببدلته العسكرية.. في إكرام الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير الثقافة والشباب وتنمية المجتمع للوفود العربية عرفنا لاحقاً أن كرمهم أكثر وأن الشحي ابنهم كرم القضية البحرينية بروحه فداءً لها.
لحظة وداع إمارة رأس الخيمة إمارة التضاد التي تجمع بين الطبيعة الصحراوية والبيئة الخضراء الجبلية الجميلة كما وصفناها في أحد المقالات السابقة ومغادرتها كنا فرحين باكتشافها ومعرفتها بعد انتهاء الملتقى الإعلامي ولم نكن ندري لحظتها أن هذا الاكتشاف يخفي وراءه اكتشاف طارق الشحي.. كنا نغادرها وفي داخل القلب أمنية بأن نعود لها قريباً فهي إمارة هادئة وبسيطة فيها ما تنشد إليه الروح من الاختلاء بالنفس والتأمل وراح عن بالنا أن الأيام القادمة سترجعنا إليها لتمنحنا اكتشاف حقيقة أهلها وتضحياتهم والتأمل في مواقفهم وشهامتهم! لتجعلنا ننتبه أنها إمارة أهدتنا أحد أبنائها ليدافع عنا ويقف معنا وبأن مناطقها التي تعكس أصالتها وبساطتها وطيبة أهلها خرج منها رمز في مواقف البطولة والشهامة ومدرسة وطنية تصدر دروس الولاء والوفاء والتضحية الخليجية..
استشهاد سجل موقفاً في العلاقات البحرينية الإماراتية وحمل رسالة إلى كل العصابات الإرهابية الإيرانية والأجنبية المخططة لبناء دولة إرهابية في مملكة البحرين وجعلها بوابة الإرهاب في الخليج لتزعزع أمنهم واستقرارهم بأن هناك جنوداً بواسل لن يسمحوا لهم بمسها وأذيتها!! درس خرج من إمارة رأس الخيمة ولم يكن على مستوى بحريني ولا إماراتي ولا حتى خليجي ولعلنا لا نبالغ أن قلنا أيضاً ليس عربياً بل عالمياً يعنون بالاتحاد الخليجي الدفاعي في وجه الأعداء، فالشحي بات اليوم رمزاً خليجياً عالمياً في إيثار النفس تضحية وبطولة لأجل دولته الثانية ووطنه الخليجي الآخر وهو أحد الأدلة أمام العالم على أن دول الخليج دولة واحدة عربية التاريخ!
لذا إلى جانب حزننا العميق واستنكارنا لكل شهيد من رجال أمننا يسقط فاستشهاد الشحي استثنائي فهو يحمل رسالة ذات أبعاد خليجية وإقليمية.. الشحي ضحية لمخططات إيرانية في جعل البحرين بوابة الإرهاب الخليجية.. طارق الشحي لم يتوفاه الله ورحل عنا بل أمثاله يظلون موجودين بيننا ونراه.. الشحي رأيناه بعد استشهاده ونحن نصافح زوجته التي هي إحدى قريباته بالأصل حين راحت تقول لنا «الحمد لله على كل حال وقولوا لأهلكم في البحرين لدي أربعة أسود من بعد طارق سأرسلهم لكم ليدافعوا عن وطننا البحرين!» ونحن نودعها وتصحح لنا كلامنا عن «آخر الأحزان» «هذا ليس حزناً بل فرحاً لكون طارق شهيداً!» عرفنا شيئاً من صفات طارق في مكابرتها لحزنها العميق بالصبر والاحتساب عند الله والرضا بقدره.. فهمنا موقف تضحية طارق في كلام إحدى قريباته وهي تقول: عندما يكون لك شقيق ويتعرض أحدهم له فبديهياً «ستفزع» لنصرته وهذا ما فعله طارق تجاه إخوانه البحرينيين.
تعرفنا على الشهيد طارق أكثر وهي تخبرنا حين طلب منه أهله أن يبقى مع أسرته فقال «البحرين وطني ولابد أن اتجه للدفاع عنها!» في شيخ قبيلتهم الشيخ أحمد حمدان الشحي وهو يرحب بالوفود البحرينية التي جاءت لتقديم العزاء ويبلغهم باستعداده لإرسال سيارات خاصة لاستقبالهم رغم فاجعتهم على ابنهم وحزنهم.. في ابنه محمد وهو يقف مع الوفد النسائي وفي عينيه البريئتين يكابر حزن خسارة والده ويركنه جانباً بالابتسام والترحيب بنا.
لذا رسالتنا للأعزاء في الإمارات الشقيقة لن ننسى الشهيد طارق الشحي ابن إمارة رأس الخيمة التي قدمته لنا وفاء ودفاعاً وكم من أجساد بيننا تعيش وهي غير حية بالفعل، وكم من أرواح عاشت فترة قليلة واختارها الله ولكنها تركت بصمة تاريخية مميزة تعيش بيننا حاضرة للأبد ونحن لم نحضر إليكم لنقدم واجب العزاء فقط بل لنشد على أيديكم ونشكركم على موقفكم الأخوي الصادق معنا وكما لن تتنازلوا عن دمه كما أعلن حكامكم، فنحن أيضاً لن نتنازل عن المطالبة بحق الاقتصاص والإعدام من قتلته وقتلة كل شهدائنا من رجال الأمن ورسالتنا لكم دم الشحي غالٍ علينا ولن نفرط في موقف تضحيته فتضحيته وشم في قلب كل بحريني وبصمة حاضرة دائماً ونحن لا نرفض رحيل طارق فهذا قضاء الله وقدره بل نرفض ألا يتم تطبيق القصاص والإعدام ممن سلبوه من حياته وأبنائه.
إحساس عابر 1..
أجمل ما قيل من إخوتنا الإماراتيين عن استشهاد الشحي إنه استشهد في إمارته الثامنة.. عبارات المواساة فور وقوع خبر استشهاده وجدناها من أهل الإمارات لنا فقد سبقونا بتأكيد موقفهم المتضامن والمتلاحم معنا وأن الحزن واحد «طارق ابنكم ما هو ابننا وما قام به يدخل ضمن واجبنا نحوكم.. نحن مسؤولون عنكم وأنتم إخوتنا والبحرين وطننا الذي نحميه» جمل عديدة كتبت وأرسلت لنا طيلة الأيام التي تلت استشهاد الشحي وكأنهم بذلك يحاولون تخفيف وطأة ما نشعر به من حرقة وألم وقهر تجاه سقوط أحد أبنائهم وعدم قبولنا لأن يهدر دم إماراتي على أرض البحرين ولعلنا بذلك لم نخطأ عندما نقول «شكراً لأبناء زايد.. شكراً فخيركم دائماً على البحرين والعالم زايد!».
إحساس عابر 2..
تضحية طارق الشحي رسالة للعصابات الإيرانية بالمنطقة بأن البحرين ستكون وطناً عصياً وصعباً على مشروعكم الإرهابي.. الشهيد طارق جسد في استشهاده رسالة للجميع: في صوري أثناء تقليدي لوسام الخدمة بالبدلة العسكرية أحمل بسمة رضاً لأؤكد بأنني قدمت روحي لكم دفاعاً عن أرضي البحرين.. البحرين التي كانت قديماً البحرين الكبيرة من بصرة العراق إلى سلطنة عمان، أنا ابنكم وأنتم عائلتي وقد استشهدت على أرضكم وأمنيتي بأن تكون البحرين بلد الخير والأمن والأمان وإن كانت «عذاري تسقي البعيد وتخلي الجريب» كما يقال فالبعيد جاءكم اليوم من وطنكم الثاني ليضحي لأجلكم وسأبقى قريباً منكم دائماً ودمي على أرضكم حاضر وفاء.