تتزاحم المسؤوليات والواجبات الملقاة على عاتقنا يوماً بعد يوم.. في زحمة العمل ونوبات العمل الإضافي.. ورنين هاتف لا يعرف لغة الصمت حتى بوضعه على «الصامت»، ورسائل مستفزة -ليست ذات قيمة أحياناً- تتوارد على الموبايل في كل حين، لا يفوقها استفزاز إلا مهام عديمة الجدوى يبتدعها بعض المسؤولين ليس لشيء سوى للتضييق على بعض موظفيهم، قد كتب أعلاها بالحبر السري «بهذا نحبط همم المجتهدين.. ونحارب الطاقات بتشتيت الجهود».!!
في تلك المعمعة.. أرفع سماعة الهاتف: «آلو.. موسى عساف؟!! هلاَّ أمهلتني لساعة زمن قبل تسليم المقال؟!»، وبتعاون لا مثيل له، يأتي الرد بالإيجاب.. هكذا عهدته ومازال. في تلك الأثناء.. وفور إنهاء المكالمة.. تصلني رسالة «برودكاست» بدت لي للوهلة الأولى غير مفيدة.. ولكنني ما أن قرأت أول أسطرها حتى أجبرتني على قراءتها كاملة.. وقد تستغربون أن أخبرتكم أنها لم تتضمن خبراً سياسياً مهماً، ولم تثر قضية اجتماعية خطرة.. وإنما كانت تعيد ذكريات طفولة بعض الأجيال من «زمن الطيبين».!!
أيقظت فيّ الحنين لماضٍ لن يعود.. جيشت فيّ حماسة الطفولة واندفاعتها.. انتشلتني من استغراقي في جدية قاتلة، وضغط عصبي أظنه أصبح روتين حياتي وسمتها.. وجعلني أفيق على حقيقة لاحتياجات غيبناها في حياتنا بوعي أو دون وعي.. عندما انتزعت المدنية وتبعاتها حياة البشر الطبيعية لنتحول لآلات.
رسائل صغيرة كهذه.. كشفت لي كم أننا بحاجة لمن يذكرنا ببراءتنا.. لمن يداعب مخيلاتنا ويغوص في أعماق ذاكرتنا ليستخرج منها نفائس «الطيبين» في عالم وحشي، صنع من أفراده وحوشاً تفترس الإنسانية بصورها المختلفة، ومكائن لضخ الحقد والنزاع.
سمعنا ومارسنا كثيراً من الفنون في حياتنا العامة.. تلك التي نتداولها يومياً في إعلامنا وأحاديثنا الشخصية وربما في العمل.. بل إن المجتمع يتداولها على أعلى المستويات، فن السياسة، فن الدبلوماسية، الفنون التشكيلية، الفنون الشعبية، فن الطبخ، فن الماكياج، وغيرها كثير. لكننا نسينا أو أُنسينا فن الابتسامة أو صنعها، بل حتى تذوقها.!!
شكراً من الأعماق لمن منحني لحظات أسترجع فيها براءتي.. وطفولتي.. وطيبتي.. وأشياء قد عفى عليها الزمن. شكراً لمن ذكرني ببشريتي وإنسانيتي.. وأنني جزء لا ينفصم عن منظومة «الطيبين» الذين مهما تلونوا وتشكلوا -بعدما استعبدتهم الظروف والوظائف ومتغيرات العالم سياسية واقتصادية واجتماعية- تظل في داخلهم بذرة «الطيبين» الأصيلة على أهبة الاستعداد للنمو والإعلان عن نفسها إذا ما منحناها الفرصة من جديد، لنستنشق هواء الحرية التي لم نتذوقها إلا عندما كنا صغاراً، ولنتحرر من عبودية الذات وعوامل خارجية كثيرة، إنها فقط بحاجة لمنحها حق السقاية بالحب والتسامح والأمل.
لعلنا لا نجرؤ بما يكفي لأن نطلق العنان لروح «الطيبين» في هذا الزمان، وفي ظل الواقع المتردي.. غير ألا ضير من الرجوع إليها بين الحين والآخر، لا ضير من منح النفس آفاقاً أرحب لتذوق معنى السعادة ولو للحظات معدودات، ولنستعيد نقاءنا ونتذكر أن الدنيا مازالت بخير.. بل إننا مازلنا بخير. فنحن من صنعنا سوء الدنيا ونحن من جعلناها صلفة الطباع بقراراتنا.. بخياراتنا.. بصنائعنا.. فلنعد صياغتها من جديد على نحو أفضل -ولو جزئياً- ولو بداخلنا.. فإن «الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم». إلى هذا الحد أكتفي.. قبل أن تندفع مطرقة «الواقع» على رأسي في ضربة واحدة، توجز معنى العودة إلى زمن الطيبين.!!
وإذا بهاتفي يرن: «آلو.. نعم.. موسى عساف.. نعم.. المقال.. نعم نعم أرسلته.. عبر أثير الذاكرة وترانيم الروح.. فإنه ليس ثمة مقال على بريدك الإلكتروني اليوم.!!