إن الحديث عن موضوع قيام الدولة الكردية لم يعد حديث تكهنات أو تحليلات سياسية؛ وإنما أصبح حديثاً رسمياً ومطلباً علنياً بعد التصريحات التي أدلى بها رئيس الإقليم مسعود بارزاني، والتي أعلن فيها نيته طرح استقلال كردستان عن العراق على ضيفه وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية جون كيري، الذي يعد أول وزير خارجية أمريكية يزور الإقليم، ومما لا شك فيه أن هذه الزيارة تعد ذات مغزى مهم وقد تحمل مؤشراً على ضوء أخضر أمريكي للأكراد للحديث صراحة عن رغبتهم في عزمهم إعلان استقلال إقليمهم.
ويأتي إعلان البارزاني عزمه التحدث لضيفه الأمريكي عن رغبة الأكراد في استقلالهم عقب تصريحات تركية رسمية سبقت زيارة كيري لكردستان، والتي أدلى بها حسين سليك، المتحدث الرسمي باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم، حيث قال: «من حق أكراد العراق أن يقرروا بأنفسهم اسم ونوع الدولة التي يريدون العيش بها».
ولكن ما الدور الذي لعبته فتاوى مرجعية حوزة النجف في دفع الأكراد للإعلان عن رغبتهم الصريحة في الاستقلال؟
بالعودة إلى علاقة الحركة الكردية المسلحة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بمرجعية الحوزة الشيعية في النجف، نجد أنها كانت تتميز بالمتانة، حيث شاركت مرجعية حوزة النجف من خلال وكلائها في الاستقبال والحفل الذي أقيم للزعيم الكردي مصطفى البارزاني لدى عودته من منفاه في الاتحاد السوفيتي عام 1959 على ظهر الباخرة (جورجيا) التي رست في ميناء البصرة.
وقد تعززت علاقة الأكراد بالمرجعية الشيعية عقب فتوى المرجع الشيعي الأعلى وقتها، آية الله محسن الحكيم (1889 - 1970)، بحرمة مقاتلة الأكراد في شمال العراق منتصف الستينيات، وقد فسرت فتواه آنذاك بأنها جاءت تلبية لطلب شاه إيران الذي كان يدعم الأكراد ضد الدولة العراقية بالتعاون مع إسرائيل وبريطانيا.
العلاقة القديمة بين الأكراد ومرجعية حوزة النجف ساهمت في توطيد التعاون بين المعارضة الشيعية ضد الدولة العراقية وبين الأكراد إبان حكم حزب البعث، وأصبح إقليم كردستان بعد حرب الخليج الثانية ولغاية الغزو الغربي للعراق عام 2003م مقراً للكثير من الحركات الشيعية المناهضة لحكم الرئيس صدام حسين، وبعد الاحتلال دخل الأكراد في تحالف مع الشيعة في تكوين النظام الجديد، ولكن مع تولي نوري المالكي رئاسة الحكومة المركزية في بغداد أخذ الأكراد يعلنون تذمرهم من سياسة الحكومة التي يهيمن عليها حلفاؤهم الشيعة، وحصلت مرات عدة خلافات علنية كادت تفجر العلاقة بينهم.
مع بدء الثورة المسلحة التي أطلقها الثوار العرب السنة، والتي أدت بإلحاق هزيمة مجلجلة، عسكرية ونفسية ومعنوية، بقوات حكومة المالكي، سارعت المرجعية الشيعية في حوزة النجف، وعلى رأسها المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني، إلى إصدار فتوى (الجهاد) لاستنهاض أتباعها من أجل وقف هزيمة القوات الحكومية وانهيار العملية السياسية في العراق التي رسمها الاحتلال الأمريكي وجعل إدارتها بيد الشيعة. وهذه الفتوى وجد فيها الأكراد ضالتهم؛ حيث رؤوا فيها أنها موقف رسمي من المرجعية الشيعية للدعوة إلى الحرب الطائفية، وأنهم لا يريدون الدخول في هذه الحرب الملعونة لكي لا تضيع مكتسباتهم التي حققوها على الصعد السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية من جهة، ولا يريدون الدخول في حرب مع السنة العرب الذين يشاركونهم العقيدة والحدود الجغرافية من جهة أخرى.
من هنا أخذت النبرة الكردية تعلوا حيال مستقبلهم السياسي ورفضهم العلني للعودة إلى ما قبل 10 حزيران 2014م، وهو تاريخ تحرير مدينة الموصل وبداية هزيمة قوات حكومة المالكي.
ولكن قد يتساءل القارئ؛ هل بإمكان الأكراد وحدهم تغيير الخارطة الجغرافية للعراق، وهي بلا شك خارطة رسمت ضمن اتفاقية دولية في مطلع القرن الماضي، والتي عرفت وقتها باتفاقية سايكس- بيكو، وهي التي راعى فيها الراسمون لها مصالحهم، وهي التي حرمت الأكراد من حقهم في دولة لهم مثل ما حرمت الشعب العربي الأحوازي من حقه في استمرار استقلال إمارته العربية بضمهم إلى إيران قسراً؟
من الطبيعي أن ليس في استطاعة الأكراد ولا غيرهم من تغيير الخارطة الجغرافية لا في العراق ولا في غيرها، حيث إن النظام الإقليمي، بل والنظام العالمي، كان وما زال مبنياً على أساس هذه الخارطة، وأن تغيير هذه الخارطة لا يمكن أن يتم إلا وفق نظام إقليمي ودولي جديد يأخذ بالاعتبار مصالح الدول الراسمة للنظام العالمي أولاً ومن ثم مصالح النظم الدولية والإقليمية كل على قدر حجمه وتأثيره في المشهد السياسي.
لهذا فإن الأكراد لا يمكن أن يتحدثوا صراحة عن عزمهم إعلان استقلالهم دون أن يكونوا قد خبروا مزاج الدول التي رسمت خارطة «سايكس - بيكو» ومزاج الدول العظمى راعية النظام العالمي. وقد يدفع هذا الكلام القارئ إلى طرح تساؤل آخر وهو؛ هل أن قيام الدولة الكردية غاية أم أنها مجرد كلمة في سطر جديد من التقسيمات التي سوف تشهدها منطقة الشرق الأوسط، من أفغانستان شرقاً وليس انتهاء بسوريا، تحقيقاً لحلم حزب الليكود الصهيوني في إقامة الدولة اليهودية؟.
وعلى هذا يمكن القول إن إعلان المرجعية العليا في النجف فتوى الجهاد ليس كغيرها من الفتاوى الحوزوية السابقة، فهي ذات أبعاد سياسية أكثر منها دينية، إنها ليست لحماية المقدسات الشيعية وآثارها ليس على السنة فقط، بل إنها مبرر لتقسيم العراق والاعتراف بيهودية إسرائيل وإبقاء الشيعة العيش في ضيق الطائفة.