يزداد توحش نظرية الخذلان الأمريكية في العقل الجمعي الخليجي، نظراً لمواصلة واشنطن لفجورها وتقواها على حد سواء، ولأنها منهمكة بوضوح في تفكيك تحالفات إقليمية وإعادة تركيب أخرى. فقد دفعت بالأمور للانفراج بين طهران والغرب في مفاوضات فيينا 18 فبراير 2014م حول البرنامج النووي المثير لقلقنا عسكرياً ومدنياً، وفيما نحن نصر على متابعة القنوات الإخبارية ببلادة سياسية تعهدت واشنطن بتمديد الاتفاق المرحلي إلى سنة، في تأكيد لما صرح به تشاك هيجل، وزير الدفاع الأمريكي، من فجور قبل ثلاثة أشهر حول اهتمام واشنطن بمنطقة الخليج، ولكن وفق قواعد جديدة، أبرزها «التغير المرحلي».
أما تقواها ففي الزيارة الاعتذارية المرتقبة للرئيس باراك أوباما للرياض في الشهر القادم، حيث نتوقع أن تكون هناك ترضية لدول الخليج، وأكاد أجزم سلفاً أنها لن تكون تفكيك مفاعل بوشهر المتخلف في تقنيته وإدارته، بل الأقرب أن يطلق أوباما من الرياض العنان لمبادرة غير محددة المعالم في الملف السوري أو المصري كترضية للخليجيين.
يعتبر فبراير أقصر الشهور، وآخر شهر أضيف للتقويم الغربي، لأن الرومان قد اعتبروا أن الشتاء فترة لا تحتوي على شهور. إلا أن فبراير الجاري كان أكثر الشهور أياماً في حساب الحراك الاستراتيجي الخليجي. فقد ظهرت مؤشرات على الاقتناع بتآكل الرهان الخليجي على واشنطن عبر زيارات عالية المستوى نفذها صناع القرار هنا لتوسيع شراكات الخليج الاستراتيجية.
ففي 14 فبراير وصل الملك حمد بن عيسى آل خليفة إلى نيودلهي ووقع خلالها اتفاقات ومذكرات تفاهم في مجالات التجارة والاقتصاد والتكنولوجيا، وفي ذلك فتح لنافذة يبلغ إجمالي حجم التبادل التجاري عبرها نحو 170 مليار دولار بين الهند ودول مجلس التعاون. وفي 15 فبراير من نفس الشهر وفي اتجاه معاكس قام الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بزيارة لتركيا لفتح نافذة يتم عبرها إشراك أنقرة في مستجدات الأوضاع في المنطقة، وفي 19 فبراير قام الأمير سلمان بن عبدالعزيز بجولة شملت باكستان واليابان والهند والمالديف في مسعى لتوسيع شراكات الخليج الاستراتيجية أيضاً، والدول التي قام صناع القرار الخليجي بزيارتها تمثل ثقلاً سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً بل وبعضها يمثل منافساً محتملاً للغرب.
ولأن الراكد يأسن؛ وحتى لا يصبح الاعتماد على حليف واحد بمثابة الخطيئة الأصلية التي ستلازم مستقبلنا، فإذا كانت واشنطن ترى أن دول الخليج استنفذت حصتها من دفء العلاقات، فالأولى أن نبادر بالتقرب تجاه من ينازع واشنطن على الصدارة السياسية والاقتصادية والعسكرية. ولعجز روسيا عن تحقيق أمنها الداخلي أو حماية حلفائها في أوكرانيا وهم في خاصرتها، ولاستشراء الفساد في تجربتها الرأسمالية الجديدة، ولفشلها في حسم الأمور لصالحها في ليبيا وسوريا تصبح الصين القطب الذي لم نجربه حتى الآن.
ويشجع على ذلك تحقيق الصين معدلات تنمية اقتصادية مرتفعة، ولانفتاح الصين على العالم بدون شروط، إضافة إلى أنها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن، وجزء من حلول القضايا الساخنة، كما إنها صديق تاريخي للعرب. فحتى تنجح عملية توسيع شراكات الخليج الاستراتيجية على صانع القرار الخليجي فكّ رمُوز المنطق الذي يتحكم في بناء تحالفاتنا عبر توسيع دائرة المقارنات، وتجاوز الرؤى الاستراتيجية الحاكمة لسياساته الراهنة وتجاوز الإدراك الانتقائي الذي قادنا للتعلق بالعم سام رغم تقلباته. وببعض التروي قد تنجح دول مجلس التعاون في إقناع الصين بجدوى استخدام «وبر» أصلي لحياكة «بشت» جديد يحميها تقلبات البيئة الإقليمية والدولية.