نعم إنها قضية الفقراء في الأرض، بعد أن تعبوا من اعتلاء الجبل، والسير في الدروب المبلطة، و«الدوس» على البساط الأحمر، ولجؤوا إلى ركنهم الضيق، وإلى القهوة التي لا ترد لهم طلباً، وهات يا أحلام!!
صديقنا العزيز تخلص من أمراض الفقر، وركب له جناحي عباس ابن فرناس، واعتلى جبل الدخان -وهو الأعلى في البحرين- وطار رشيقاً كالحمام الزاجل يجول في السماء من ديرة إلى ديرة، ينام بجانب القمر، ويقضي الليل مصاحباً النجوم، وتأتي الشمس كل صباح لتدغدغ مشاعره وتترجاه أن يتنازل ليصحو من أحلامه السعيدة ويستقل أقرب يخت، ليبحر كما كان «أوناسيس» في يخت تزينه أجمل بنات الدنيا، ليحتسي أفضل أنواع العصائر ويفطر على الطريقة التي اعتادتها «ديانا».
صاحبنا بعد أن بدأ أولى خطواته في سوق الحراج التقى صديقاً لم يكن على البال ولا على الخاطر. فبادره ذلك الصديق قائلاً: أهلاً بالحبيب صديق الدراسة، وأهلاً بالرجل الذي كان يدرس الليل والنهار وأنا من يتفوق عليه، وهو السبب في نجاحي بعد أن يملأ ورقتي بالإجابة التي أجهلها. تصوّر أنني منذ زمن تمنيت أن ألتقيك لأرد لك ولو جزءاً بسيطاً من نجاحاتي والثروة التي أنعم بها الآن.
قال له صديقنا غير مصدّق مما يسمعه «قصدي مما يحلم به»: هل تعني ما تقوله أيها الحبيب. نعم نعم، فأنت من كان وراء الثروة التي أنعم الله بها علي، فكيف لي أن أنساك؟ ولكن تعال افتح لي قلبك.. ما أخبارك؟ وأين تعمل؟ وأين تسكن؟ وكم لك من الأولاد؟ وما هو رصيدك في البنك.. أو قل لي ما هي ديونك؟ ومن أي الأنواع تقتني السيارة التي تمتلكها؟ كل ذلك تهمني معرفته فمعزّتك عندي لا تقارن بثمن.
«تنصخ» صاحبنا -وحسبي أنه سحب كل الأوكسجين المتوفر في «الديرة» وحوّله إلى ثاني أكسيد الكربون قبل أن ينبس ببنت شفة- وقال: «أنا إنسان معدم أسير تحت «تايرات» السيارات رغم أنني أسلك الرصيف، لكن السيارات تتلذذ «بالدوس» على رأسي، وكلما رفعت وجهي لأستنشق الهواء شعرت بـ«تاير» يعاود المرور على رأسي للمرة الألف. أما عن السيارة فهي موديل قديم -لا أتذكره- تصالحني يومين وتهجرني ثلاثة شهور في بيت أهلها «قصدي الكراج»، ولأنني لا أمتلك ثمن عودتها بعد أن «زمرت» أتركها إلى آخر الشهر تكمل هجرها في الكراج.
فإن سألت عن البنك الذي أتعامل معه فهو أكثر من واحد، ليس لأنهم يحتفظون بثروتي، لكنهم هم الذين يطالبونني بالقروض، وكذلك شكاواهم لا تتوقف شهرياً، وهم يواصلون النباح عليّ ويودّون الاعتداء على جسدي المتواضع وهيكلي المهشم من الداخل والخارج.
لي من الأبناء ستة، 3 منهم بنات و3 أولاد، وكلهم «طايحين في جبدي»، فلا الأولاد وجدوا لهم وظائف، رغم أنهم تخرجوا بتفوق «لكنهم تنقصهم الواسطة وبرستيج الوالد يفشل»، ولا البنات تيسرت أمورهن، لأنهن ينحدرن من عائلة «كحيانة» والذي سيتزوجهن سوف يتورط مع أهلهن «الفقارة». وإن سألت عن البيت فهو واحد من «قراقير» الإسكان، إذا دخلتَ فيه يصعب عليك الخروج منه، مثلك مثل أي «صافية» أو «قرقفانة» أو «شعم» عندما تدخل في «القرقور».
لكنني فقط عندما أختلي بنفسي وأدخل «القطيع» وأصبّ على رأسي الماء، تنفرج كلّ أساريري وأتحوّل إلى واحد من مطربي الزمن الجميل، فأجمع بين مواهب عبدالحليم وعبدالوهاب ومحمد قنديل وهند رستم وتحية كاريوكا، وأحوّل «الحمام» إلى مسرح و«هات من الأغاني والرقص».
ضحك الضيف من كل قلبه، وقال: هكذا كما عهدتك في المدرسة «دمك خفيف» وابتسامتك لا تفارق محياك، لكنني يا عزيزي من اليوم أقولها لك بملء الفم، إن كل ما ذكرته لي كان مأساة وانتهت من حياتك، واعتبره «سحابة صيف وانقشعت» وأنت الآن إنسان آخر. فمنذ صباح الغد وفي العاشرة صباحاً أريدك أن تكون في مكتبي، وخذ العنوان فأنا بحاجة إلى مدير عام في إحدى شركاتي، ولن أجد شخصاً يشغلها أفضل منك، واعتبر نفسك قد تم تعيينك وبمرتب خمسة عشر ألف دينار، ولكن قبل أن تشرّفني في المكتب، عليك بزيارة معارض السيارات لتختار لـ«المدير» أفضل سيارة تجدها مناسبة، وأما مشكلة البيت، ستذهب معي غداً في مجموعة جديدة من الفلل بنتها إحدى شركاتي مؤخراً، لتختار إحداها بعد تشطيبها، وبتكييف مركزي وأثاث تختاره على ذوقك، ويساعدك في ذلك شركة ديكور تابعة لمجموعتنا، كما يوجد في الفيلا حمام سباحة، وعلى الساحل البحري هناك طراد مرفق بها، لرحلات الصيد البحرية في «الويكند» مع الأولاد، لأنني أعرفك تعشق البحر رغم أنه أصبح بعيداً. ولحظة قبل أن تذهب تفضل شيكاً بسيطاً بمبلغ «تبل به ريجك» مع العيال بـ«عشرة آلاف دينار، كي تشتري لهم ما يلزمهم، وقم بتفصيل هندام لك لـ«الكشخة» يا مدير، ولا تنسَ.. أنا بانتظارك غداً عند العاشرة. لحظة «وين رايح الطريج من الناحية الثانية». قال صاحبنا: «لا لا آنه أدوّر لي طوفه أدعمها علشان أتأكد أن ما أسمعه هو واقع ومب واحد من أحلام الفقاره الزطاطوه اللي كله يبقون يوصلون القمر واهمه سيارة ما عندهم، وخايف أقول لزوجتي الخبر بالتليفون تموت ويوقف قلبها قبل لا أوصل البيت، لا وبعد آخاف آمشي في الشارع تصفقني سيارة وأموت قبل لا أوصل المكتب وقبل لا تصير الساعة عشر وأخاف.. (وقبل أن يكمل الحلم) إلا وصرخة في أذنه، قوم ييب حق عيالك خبز الناس ظهر وإنت ما جفت لنه حل وياهالكهربة المقطوعة من أسبوع، قوم فز من نومك ياريال «خست» في هالفراش من العرق أشلون أتييك نوده رقدت عليك طوفه».
وهكذا تحول المسلسل التركي إلى حلم فقير أبطاله التعاسة، وعاد إلى واقعه بين كهرباء مقطوعة وبيت إسكان سيموت ولن يراه لأولاده، وديون وملاحقات بنكية و«عادت حليمة لعادتها القديمة».
الرشفة الأخيرة
«إن الذي ينتصر على غيره قوي، والذي ينتصر على نفسه أقوى».
مكرم عبيد