أسهم ظهور الترجمة في نقل المعارف والعلوم وانتشارها على نطاق عالمي واسع، وممتد لمراحل مضت من تاريخ البشرية وعصورها، كما كان للترجمة دور كبير في نشر ثقافات الجماعات والمجتمعات من مشارق الأرض ومغاربها. الأمر الأهم، أن أغلب الكتب التي تمت ترجمتها إلى لغات محددة كانت تخدم بالمقام الأول ضرورة وصول فكرة لجماعات ومجتمعات معينة، لاسيما إن كان في مادة الكتب ما يتصل مباشرة بالحديث عن واقع الآخر الذي ترجمت الأعمال بلغته أو في تقديم ما يتعلق به بشكل أو بآخر.
ويعد كتاب يوسف البنخليل «أمريكا وشتاء البحرين: تحليل العلاقات بين واشنطن والطائفة السنية البحرينية»، واحداً من الكتب التي اعتنت بها أمريكا بعد إعلان نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» حول النسخة المترجمة منه «America and Bahrain winter»، وكان من الضرورة ترجمته إلى اللغة الإنجليزية بما يحقق فرصة سانحة لنشر الفكر الخليجي والرؤى البحرينية بمنظور عام، وبما يركز على قراءة نخبوية ثقافية وسياسية ذات بعد تحليلي للسياسة الخارجية الأمريكية إزاء البحرين في الفترة المسماة بـ«الربيع العربي»، والمرتبطة بإثارة زوبعة الاحتجاجات في البحرين، والتي لا تعدو في تقييمنا الشخصي على كونها زوبعة في فنجان، وجعجعة خارجية كرّست أبواقها الداخلية لإسماع من في الداخل البحريني، غير أن طحيناً حقيقياً قد لا يمكن التوصل إليه في ظل التردي السياسي والممتد على عدد من الأصعدة ذات الارتباط في الخارج الذي عين نفسه قائداً خفياً لما سمي بـ»ثورة 14 فبراير» في البحرين.
وتكمن أهمية ترجمة الكتاب إلى اللغة الإنجليزية في مواقف كاتبه التحليلية من موجة الاحتجاجات التي سادت المملكة في تلك الفترة، والتي تناولت أبعاداً شتى من السياسة الخارجية الأمريكية إزاء البحرين، عبر عنها من خلال سلسة مقالات نشرها في صحيفة «الوطن» البحرينية، الأمر الذي أرعب أمريكا وهزَّ رئيسها في برجه العاجي، ما تمخض عن ظهور الغضب الأمريكي بصورة أو بأخرى، ثم اضطرار السفارة الأمريكية في البحرين لتقديم اعتذار ضمني في بيان أصدرته في الثلث الأول من شهر يوليو لعام 2011 تعرب فيه عن خيبة أملها راغمة ودعم حرية الصحافة!! يأتي الموقف الأمريكي لإدراكهم ما يشكله تكوين الرأي العام بطبيعة السياسة الخارجية الأمريكية إزاء البحرين من خطورة بالغة على العلاقات الخليجية الأمريكية ومصالح الأخيرة في المنطقة.
أما الكتاب فيمثل استطراداً وإيضاحاً لفحوى تلك المقالات وتفنيد مزيد من قضايا الأجندة الأمريكية، والتي كشف النقاب عن بحثها عن الطرف الأقوى في المعادلة بما يمكن أمريكا من توجيه دفتها السياسية نحو تحقيق مصالحها الاستراتيجية في البحرين. وكيف أنها عوّلت على نجاح حزب «ولاية الفقيه» الأمر الذي جعلها تجتر آلام الخيبة مراراً وتكراراً بفشل ما سمي عنوة بـ»ثورة 2011» كذلك.
وبفضل الدور الأمريكي البريطاني في تعيين إيران شرطياً لمنطقة الخليج العربي إبان الانسحاب العسكري البريطاني من الخليج العربي في سبعينات القرن الماضي، وتنصيبها حامياً للمصالح الاستراتيجية وفي مقدمها الذهب الأسود، في ضوء حفظ أمن المنطقة بالمنظور الغربي، كانت أمريكا لاتزال تعول على إيران وذراعها العراقي الذي أهدته إياها بعد احتلال 2003. غير أنه انقلب السحر على الساحر بمزيد من الاضطرابات الإيرانية الداخلية وتردّي الأوضاع العراقية عموماً. الأمر الذي أخرجها من المعادلة -التي ابتكرتها أمريكا- إلى حد كبير. يأتي قبالة ذلك قوى إقليمية أسهمت في دعم الموقف البحريني ونظامه الخليفي القائم لعل أبرزها السعودية.
يقدم الكتاب كذلك إشارات غاية في الأهمية إلى الدور الملقي على عاتق مناهضي ولاية الفقيه في البحرين وإلى أزمة الطائفة السنية بالاتكال على الآخر، وضرورة إيجاد خارطة طريق للسنة تهدف بالمقام الأول لحماية البحرين والحفاظ على أمنها. ما يجعل من الأسباب كلها مجتمعة لتبرر الأهمية التي تبوأها كتاب البنخليل في قائمة الكتب في الولايات المتحدة الأمريكية، والأسباب الداعية لترجمته أولاً.
إن كتاباً يقرأ السياسة الخارجية الأمريكية، يتبوأ تلك المكانة من الأهمية، يعني أن هناك تعطشاً غربياً لفهم صورة سياساته إزاء المنطقة لدى الآخر، ويعني شحّ الدراسات أو المؤلفات في مجالات مشابهة، وأن المبادرة التي أخذها البنخليل على عاتقه في مرحلة تاريخية حرجة جداً، لابد أن تكون بوابة لولوج الكتاب والمؤلفين إلى هذا النوع من المؤلفات بجدية بالغة وعمق تحليلي يرقى لمستوى الظهور العالمي، ولا تقتصر تلك الأهمية على السياسة الخارجية الأمريكية، فإن كثيراً من الأقطار الأخرى بحاجة كذلك لدراسات على مستوى عالٍ من التفنيد والتحليل والاستشراف بما يرسخ سياسة خارجية بحرينية وخليجية متزنة وواعية في الجانب الآخر. وإن المتتبع للمشهد السياسي العام لابد أن تتجه مؤشرات بوصلته البحثية نحو إيران وتركيا وروسيا والصين والهند ومصر ودول خليجية مختلفة وغيرها، لمزيد من الفهم لأوجه تلك السياسات سلباً وإيجاباً على المملكة والمنطقة ككل.