عشرة أشهر واليمنيون على رؤوس أصابعهم ينتظرون نهاية الحوار الوطني بشوق وترقب وآمال معلقة وأحلام أقلها بلد آمن لا تشرذمه الخطوب، بلد ترسو سفينته بعد طول ضياع في عرض البحار؛ فماذا حصدوا؟
لا شك أن اليمن مر ولا يزال بتعقيدات أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية، ورأى الشعب اليمني في المبادرة الخليجية الموقعة عام 2011م ومؤتمر الحوار الوطني المتحصل عنه طوق النجاة، وطريقاً لإخراج اليمن من عنق الزجاجة، ولكن ما هو أقل من ذلك لم يتحقق.
جاء اجتماع 565 مواطناً -هم كامل أعضاء المؤتمر- على اختلاف أفكارهم السياسية ومشاربهم المتنوعة وإيديولوجياتهم المتناحرة، ليشعل شمعة في ليل اليمن الطويل، أو هكذا اعتقد المتفائلون، ولكن النتائج والمخرجات خيبت التوقعات ووأدت الأحلام في مهدها وعادت باليمن إلى نقطة البداية.
خرج علينا المؤتمرون، بعد مخاض عسير دام قرابة عام، بوثيقة مثقلة بالبنود، قارب عددها 1800 بند، ولكنها بمجملها مبهمة وعامة، ويحتمل كل منها ألف تفسير وتأويل، ويحتاج كل مخرج منها لحوار آخر وربما حوارات، كما لم يكلف أحد نفسه ليقول لنا آليات تطبيق هذه البنود.
الواضح من هذه الوثيقة -نظرياً على الأقل- أنها لا تقوى على الثبات أمام أزيز الرصاص وقعقعة المدافع، خاصة أن الوثيقة نصت على احترام القوانين وإعادة بناء الدولة وإنهاء المظاهر المسلحة في المدن ودعم الاقتصاد الوطني وإشاعة الأمن، وهذا لا يختلف عليه أحد، بل هو مطلب جميع الأطراف، ولكن هل هذه المخرجات بصيغتها المطاطية هذه هي سبيلنا لليمن الجديد؟
أزعم أن أم المشاكل في اليمن تكمن في فقدان الأمن وانتشار السلاح المتوسط والثقيل بيد قطاعات ومكونات مختلفة، وشيوع المليشيات والجماعات المسلحة، وغياب الدولة عن الكثير من المناطق، وانقسام الجيش والأمن، فلا اقتصاد ولا تطوير ولا تعليم ولا حياة اجتماعية ومعيشية وحقوقية دون أمن واستقرار.
وإذا كانت والحال هذه؛ هل وضع مؤتمر اليمن الطويل حلاً للمشكلة الأمنية؟! أزعم بالنفي، والسبب بسيط جداً، فالمتابع لمخرجات الحوار خصوصاً ما تم الاتفاق عليه بتسميته ضمانات التنفيذ كان مبهماً وغائماً أكثر من المخرجات نفسها، إذ نصت مثلاً على «استكمال إجراءات إعادة هيكلة الجيش والأمن»، رغم أن هذه النقطة رحلت من اتفاقية المبادرة الخليجية لمؤتمر الحوار، وكان يفترض إنهاؤها قبل بدء الحوار، وها هي الآن على رأس الأجندات مرة أخرى، ويعلم الله ما مصيرها.
الوثيقة نصت أيضاً على «إنهاء جميع النزاعات المسلحة»، فهل الدولة أو سواها من الأطراف قادرة على تطبيق هذا البند؟ بعد أن عجزوا عن إنهاء الحرب في دماج والمحصورة على مساحة 2 كيلو متر مربع فقط، وسمحت للحوثيين -طوعاً أو كرهاً- بفرض حصار على 15 ألف مواطن من أبناء المنطقة ولمدة زادت عن 3 أشهر، لا بل غضت الطرف عن تهجيرهم في كارثة تعتبر الأسوأ بتاريخ اليمن الحديث.
بعد هذا هل الدولة بمؤسساتها المترهلة قادرة على إنهاء النزاعات المسلحة وكيف؟ وما آلية التعامل مع الأطراف الرافضة للتسويات السلمية؟ وهل ستواجه الدولة مثل هذه الأطراف أم تدس رأسها في التراب كما حصل في قضية تهجير أهل دماج؟ السادة المؤتمرون لم يحددوا آليات تنفيذ هذا البند أو ضماناته.
قد يعتبر البعض هذا الطرح معوقاً إضافياً في طريق بناء اليمن الجديد وإجحافاً بحق المؤتمر ومخرجاته، لكن هؤلاء يتجاهلون أنه وعلى امتداد أكثر من خمسين عاماً من تاريخ اليمن المعاصر وقع 11 انقلاباً عسكرياً ونحو 12 حرباً أهلية، وأُزيح كل الرؤساء الذين تعاقبوا على اليمن بالقوة العسكرية، ألا تجعلنا هذه الحقائق الدامغة أكثر حذراً وتفرض علينا قراءة المخرجات وضماناتها عشرات المرات قبل أن نهلل لها ونبشر بمستقبل آمن لليمن وأهله.
أنا من المؤمنين بالحوار السلمي لا حوار البنادق، فلا حل لأزمات اليمن كلها إلا بالجلوس إلى طاولة الحوار، هذا واقع، لكن المطلوب ليس حوار الطرشان، بل الحوار الجاد المثمر الذي تنعكس نتائجه مباشرة على أرض الواقع، ويشعر بها المواطن المغلوب على أمره والمجرد من عوامل القوة، ويلزم جميع الأطراف دون استنثاء.
المتتبع لمسار الحوار يجد تناقضاً بين الأقوال والأفعال، إذ كانت كافة الأطراف المتحاورة متفقة على ضرورة نزع السلاح وإشاعة الأمن، ولكن هذا لم يجد انعكاسه على أرض الواقع، فبعض الأطراف -وأظنها لم تعد خافية على أحد- تنادي بالسلام داخل قاعة الحوار وتحتكم للسلاح خارجه، وتجهد في بناء مليشيات مسلحة تفرض مطالبها بالقوة.
من الواضح أن الصورة والمخرج النهائي للحوار لم يكتمل بعد، ومازلنا بحاجة إلى حوار جاد يضع إصبعاً على جرح اليمن النازف، فالمعوقات كثيرة، والطريق وعر وشائك، والسلام الحقيقي بطبيعة الحال يضع حداً لتجارة سماسرة الحروب.