لم يقد نقل النقيب عيسى للكلية العسكرية إلى حل مشكلة تسرب الطلبة من الدورة بالانسحاب أو بالهروب؛ بل قاد إلى جولات جدل مع زملائه، أو تفجر نوبات غضب يفرغ سم قسوته جراءها في أحد الطلبة أو أحد أفراد طاقم التدريب من صف الضباط والجنود. ولم يكن النقيب عيسى يستسيغ «عيد»، مدرب الأسلحة، بلا سبب محدد، وكان يجدد بنظراته إليه «إعلان الحرب» يوماً بعد يوم. ثم سمعه يردد أبياتاً لم يلتقط منها إلا كلمة «يستأهل» و«عيسى» واختلطت بقية الأبيات مع ضحك الواقفين ومن ضمنهم خبير حركات المشاة وكيل الضابط «جيم» من البعثة البريطانية، الذي شاركهم الضحك لانتمائه لنفس التاريخ المهني وإن لم يكن نفس الجغرافيا.
لمح البريطاني النقيب قبلهم فصاح بلغة عربية غريبة «انتبه.. استعد» مع إطالة حرف التاء حتى يلقوا بسجائرهم، وقد أحس عيد حينها بمشاعر عدم الود من النقيب لأنه صب جام غضبه عليه دون البقية، وفي يوم تدريبي كان عيد يعدد مواصفات عيار سبطانة رشاش ستيرلنغ وهي 9 ملم، وقد أسقط بيده حين سأله النقيب عن معنى كلمة «ملم»، ولم يكن عيد يعلم أن معناها مليمتر لأن أحداً لم يعلمه.
كان نقل عيد «الجاهل» الذي اقترف «إثم» عدم معرفة معنى «ملم» مسألة وقت، لكن دخول فترة بروفات التخرج أجل نقله، وفي حفل التخرج وحين يتقدم قائد العرض أمام راع الحفل كان يرفع السيف بيده اليمنى فيميل قبضته الممسكة بمقبض السيف حتى تصل لكتفه الأيسر، ثم يعيد قبضته لتصل للكتف الأيمن، ثم يرفع نفس القبضة والسيف بها حتى تصل مستوى يوازي جبهته، منهياً بتلك الحركة استئذانه من راع الحفل لبدء طابور التخرج.
في يوم التخرج وقبل وصول راعي الحفل بدقائق اقترب «عيد» من النقيب وقال هامساً: «سيدي كيف تترك قائد العرض يعاهد رأس الدولة المسلم برسم صليب النصارى! فهو يرسم الصليب في الهواء بحركة السيف؟»، ثم رفع عيد من صوته قليلاً وقال بما يشبه نبرة التوبيخ لقائده: «أنت تُعلم الطلبة أن يقسموا حسب تقاليد النصارى أمام القائد الأعلى للقوات المسلحة منقولة على التلفزيون»، تعمد عيد أن يتمهل وهو يقول الكلمات الخمس الأخيرة واحدة تلو الأخرى، رافقها تراجع النقيب داخل نفسه منكمشاً بانتظام، متماهياً مع صوت طبول الموسيقى العسكرية التي تحتل المشهد الخلفي كدعم تعبوي للصليات المنطلقة من شفتي عيد.
احمر وجه النقيب، رفع يده رغم أنه كان في حالة الاستعداد ليرخي من عقدة ربطة عنق لم يلبسها من قبل، عاد لحالة الاستعداد أو التجمد من هول الصدمة.
تسابقت أفكاره فراراً من غليان رأسه، وملأت المخاوف الفراغات في ذهنه، سيعرف أحد معنى حركات السيف «الكافرة»، لماذا لم يسأل الوكيل أول جيم عن معناها؟ جيم هو من أخبر عيد بالثغرة في دفاعاتي، لدي غريمان لا واحد، لو اكتشف مدير الكلية الأمر لنقلني، لو علمت وسائل الإعلام أن رأس الدولة يقبل ولاء ضباطه الجدد في ظلال سيوف صليبية لتطايرت رؤوس ولا مكان لحسن النية والكرامة والاجتهاد.
لم يستطع عيسى أن ينبس ببنت شفة، وبالكاد استطاع أن يرفع نظره ليوقع مع عيد بنظرات منكسرة «معاهدة عدم اعتداء»، لقد انتصر جندي آخر على ضابط آخر فقد احترامه لأنه لم يكن مؤهلاً لقيادته، فأصبح كل واحد ينظر للآخر بوصفه خصماً لا بوصفه شريكاً في مؤسسة واحدة. قد لا تكون هذه الحكاية مدخلاً دقيقاً بما يكفي للوصول إلى أن من يتسنم القيادة مدنياً أو عسكرياً قد لا يكون بالضرورة مقنعاً فيما يقوم به، أو أن قراراته تخدم أهدافاً سامية، أو أن منصبه سيحميه من تابعيه، وهذا ما دفع الوكيل أول جيم لتزويد عيد بسر ثمين احتفظ به لنفسه ثم تنازل عنه ليوقف عيسى وأمثاله.
ففي تراث جيم العسكري البريطاني مقولة «أسود تقودها خراف» (Lions for Lambs)، وفي معركة سوم (Somme) يوليو 1916م، دفع الجنرال البريطاني دوغلاس هيغ (Douglas Haig) بــ 58 ألف جندي بتكتيك الهجوم الشامل الأهوج، فلم تتقدم قواته إلا 12 كم في 6 أشهر. وقد كان الجنود الألمان مستعدين للبريطانيين الذين كان ضباطهم في الخنادق يدفعونهم بالرشاشات لقتل من لا يقتله الألمان من الأمام، مما أدى لقتل ثلثهم. ومازال ذلك الرقم محتفظاً بصدارته كأكبر عدد قتلى في يوم واحد في التاريخ الحديث. بل إن الألمان بكوا حال الجنود البريطانيين المساكين، فحفظ التاريخ ما كتب ضابط ألماني مجهول في مذكراته «لم أشاهد في أي مكان من قبل أسود تقودها خراف»(Nowhere have I seen such Lions led by such Lambs)، فذهبت مثلاً وفيلماً وقصيدة وحكاية تصور القدرة التخريبية للسلطة عندما تمنح لغير أهلها.