تستدل على مرض المرء من صفرة وجهه، وعلى مرض الفكر من صفرة صحافته، ويبدو أن صحافتنا الصفراء قد استفحل داؤها حتى خيل إلينا أنها تلك البقرة الصفراء الفاقع لونها التي أشار إليها القرآن الكريم. فهل يحق لنا انتصاراً لنزاهة صحافتنا أن نستصرخ «اذبحوا بقرة»؟!!
فإنه وبعد الإسفاف الذي تعرضت له بعض صحفنا في الآونة الأخيرة، تطالعنا الصحافة الصفراء بتصدر صفحتها الأولى محاولات بائسة في فنون الافتراء وصناعة الأكاذيب، حول فعاليات الجالية العراقية ضمن مهرجان الجاليات السنوي الذي تقيمه جامعة البحرين، يوم الخميس الماضي. وقد شملت فعاليات هذه الجالية فيلماً قصيراً يستعرض تاريخ العراق مستعرضاً حكامه بصورهم وفترات حكمهم، استعراضاً لتاريخ العراق كاملاً دونما تحيز لمرحلة تاريخية دون أخرى، شمل الملكية والجمهورية الأولى والثانية، وإن صورة صدام عرضت في الفيلم كله مرة واحدة فقط، إذ لم يتعدَ ظهوره سبع ثوانٍ، وقد ذيلت صورة صدام بنفس الطريقة التي ذيلت بها جميع صور حكام العراق من قبله، بما نصه «صدام حسين 1979-2003». فأين التمجيد في ذلك؟
ما قامت به تلك الصحافة البائسة ليس تهويلاً وتضخيماً، وإنما تزييف وافتراء، وتحريض، واصطياد في الماء العكر، في ظل الاضطرابات الأخيرة التي يواجهها الخليج العربي. غير أنَّ ذلك عرّض الجالية العراقية في البحرين عموماً والطلاب العراقيين في الجامعة بصفة خاصة لإساءة كبيرة، فضلاً عن السب والشتم والإهانات التي تلقوها من قبل من أجج الأمر وصنع منه بالون الغيرة على الخليج العربي؛ بغية تحقيق أهداف لم تعد مستترة. البحرين لا ترضى أبداً أن تسيء لمقيميها.. فكيف رضينا هذه المرة بأكذوبة أطلقها مرضى ومؤدلجون؟
تنتابني الحيرة فعلاً.. أيعقل أن يعلق أحد كبار المسؤولين في المملكة دون أن يكلف نفسه أو آخرين بالاطلاع على الفيلم؟ أيعقل أن يؤكد في تصريحات له على تمجيد الجامعة لصدام حسين عبر فيلم الجالية العراقية؟ ثم أيعقل أن تصادر حرية الناس حتى في نظرتهم وتقييمهم للأمور؟ باعتقادي فإن الموضوع يدخل في نطاق حرية التعبير عن الرأي، والتعبير عن الرأي حول الفيلم أو شخص صدام لم يتجاوز تصفيق دام لثوانٍ معدودات، لعل من صفق من أبناء العراق وهذا حق مشروع لهم، ولعلهم من أبناء البحرين ودول أخرى نظروا لصدام من منظور مختلف.
داخل كل إنسان منا يوجد الخير والشر، فلا يوجد شرير بالمطلق ولا يوجد خير بالمطلق، وإن صدام الذي غزا الكويت وأفسدها وارتكب في حقها جريمة لا تغتفر، هو صدام الذي واجه الفرس -أعداء الخليج- ولقنهم درساً لا ينسى، وإنني لست بصدد استعراض تاريخه ولا الانحياز لرأي دون غيره، وإنما كان حرياً بنا التعاطي مع الأمر بمزيد من الإنصاف والحكمة، فإن من صفق لصدام لم يحرق في بلادنا ولم يلقِ بالمولوتوفات على رجال أمننا ليستشهد من استشهد ويصاب من يصاب، من صفق لصدام لم يسكب الزيوت في شوارع المملكة ليهدد أمن المواطنين وسلامتهم. فإن أفعال كهذه كانت حصيلة تمجيد الخميني والدولة الإسلامية وإيران وولاية الفقيه، في السر والعلن.. فهل من يمجد هؤلاء منا؟!
إننا ومع الأسف مازال ينقصنا الاتزان والعقلانية في التعاطي مع الأحداث، وألا ننساق لهرطقات لا أساس لها من الصحة. إن تعبير بعض المسؤولين عن مواقفهم بما يعكس مواقف بلادهم لا يعني بالضرورة مصادرة الآراء، أو استباحة الاعتراف بالبعض، والتنصل من البعض الآخر دونما جريمة تذكر. فاعتراف الدولة -ومن يمثلها- بمواطنيها ومقيميها لا يجب أن يكون مزاجياً ولا اعتباطياً ولا حتى انفعالياً إن كان لذلك سبب غير مقنع. لا أحد يملك القدرة على المنع من الإعجاب بقائد سياسي أو عدمه من داخل البحرين وخارجها، ما لم يتم التعبير عن ذلك بسلوك يتجاوز حرية آخرين ويعتدي عليها، وما لم يمتد الإعجاب لموالاة على حساب المواطنة في الداخل. فعلى أي وتر تدندن تلك الصحافة القبيحة ومن سار على نهجها؟! أوليس من باب أولى أن تواري قبل ذلك كله سوءاتها؟!
من يرى صدام بطلاً فهذا شأنه، ومن يراه مجرماً فشأنه أيضاً، كما إن لحسابات النظام والمواقف الحكومية بما يتسق مع الانتماء الخليجي والعلاقات الإقليمية شأناً مستقلاً تماماً عن هذا وذاك، لذلك جاء ما يسمى بالرأي الشعبي والرأي الحكومي الرسمي. فلم يتبرأ بعض المسؤولين ممن خالفهم الرأي في مسألة كهذه؟!
ثم إن ما ذكره أحد المواقع الإخبارية المريضة كذلك حول وزيرة الدولة لشؤون الإعلام سميرة رجب.. وإقحامها في الموضوع، فبغض النظر عن انتماء الوزيرة، فإنها في البحرين تمثل كونها مواطناً مسؤولاً قبل كل اعتبار، وأول ما يطلب منها ومن جميع المواطنين الإخلاص والشعور بالانتماء للوطن، فإن تحققا فما اللائمة التي أراد المسوقون لتلك الأخبار بإلقائها على الوزيرة؟ ثم إني لا أجد رابطاً بين تاريخ الأحداث في جامعة البحرين قبل 3 سنوات مضت وبين عرض فيلم الجالية العراقية. فبأي حق يربط هؤلاء الحوادث والشخوص ببعضها جزافاً دونما دليل أو تقديم رابط منطقي لذلك.
ثم ماذا بعد التصفيق.. كلي يقين أن القيادة الكويتية فطنة تماماً لاختلاف الآراء الشعبية، ولعدم مساسها بمواقف المملكة. نظراً لريادة الكويت في الحريات، وما تتمتع به من خبرة عالية في المجال سبقت دول الخليج كافة، وهي حقيقة كلنا ندركها. فهل نتوقع من نظام واعٍ كالنظام الكويتي أن ينساق خلف خبر ملفق ذي صبغة استفزازية وتحريضية كاشفة الرأس كهذا؟! لنقوم بتبرير موقفنا ببراءتنا من مواطنينا أو المقيمين العراقيين بالمملكة، كبراءة إخوة يوسف من دم أخيهم.!!
أرجــو ألا أكون قد قسوت بقلمي على أحد، ولكن كثيراً من الحب والخوف على مصلحة الحبيب -ولداً كان أو وطناً- يوّلد القسوة إن كانت ذات تأثير أنجع وأضمن. إن الحرص على الوطن وسمعته وأمنه لا يوجب علينا التصفيق لكل ما يقال أو يفعل من قبل الدولة أو ممثليها، بل لعل ما نوجهه أحياناً -ككتاب- من نقد بناء قمة في الوطنية والإخلاص. لعل ليس لدينا مزيد من الوقت نستنفده في مناصحة ناعمة متوارية بين السطور في كل مرة؛ فتسارع الأحداث وتفاقم الأخطار من الداخل قبل الخارج يحتمان علينا التحدث بوضوح وبصيغ مباشرة أحياناً.
دعونا نعمل بقاعدة أنا لست معك في الرأي لكني شريك معك في المصير، وأرى المصلحة في غير الوجهة التي ذهبت إليها فزعاً من مد الموج، ولكني أبداً لست ضدك. ومن هذا المنطلق وحده أرجو من المسؤولين جميعاً أن يغفروا لي بعض جرأتي ويحتملوا قسوة صراحتي.
ناصحكم يا ناس -يا سادة- محبكم، وعدوكم فاضحكم، فتأملوا صنيع الفضيحة ومصدّرها، حرية الرأي والصحافة لا تعني التقول على الناس أو الافتراء عليهم. هذا ما يوجب النظر وما يوجب اتخاذ إجراء حازم ضده، وهو ما يوجب التوضيح والاعتذار للشقيقة الكويت. فضلاً عن الاعتذار للجالية العراقية في البحرين.
أتساءل.. أسيكون لوزيرة الدولة لشؤون الإعلام إجراء علاجي حازم تتخذه ضد تلك الصحافة الصفراء؟ أو أن تحيلها لمركز علاجي وتأديبي أكثر اختصاصاً يتمثل في القضاء؟
- نبضة حق..
وطني الحبيب.. اذبحوا بقرة.