إن الإنسان العادي، في أي مكان من هذه الأرض، دائماً ما تكون نظرته محدودة باليومي والمؤقت والزائل، محدودة بالوجبة التي يظنها لا تكفيه، وبالثوب الذي يتصور أنه لابد أن يستبدله بغيره، فهو دائم الشعور بنقص ما لديه، رغم أن كسرة خبز وقطرة ماء تكفيه، وأن ثوباً يلبسه في النهار ويغسله في الليل، قادر على أن يستره ومن البرد يحميه. من هنا نرى القلق الدائم عند بني آدم في شرق الأرض وغربها، في شمالها وجنوبها، في مدنها وقراها. قلق الخوف من انتهاء اللقمة، وقلق الخوف من عدم الحصول على المأوى، بعبارة أكثر تحديداً؛ قلق الخوف من القادم بالرغم من معرفته الكاملة أن القادم هو في علم الغيب والغيب علمه عند الله سبحانه وتعالى. وهناك الأقلية التي تستشعر ذلك من خلال تجربتها الحياتية وإيمانها التام بأن ما من دابة إلا على الله رزقها، أي أن مخلوق لا يخلق إلا وكان رزقه معه. قرأت فيما مضى أنه قد روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله، والناس ببابه جلوس، والنبي جالس، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أُذِنَ لأبي بكر وعمر، فدخلا والنبي جالس وحوله نساؤه وهو ساكن. فقال عمر رضي الله عنه: لأكلمن النبي لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله لو رأيت ابنةَ زيد «يريد امرأته» سألتني النفقة آنفاً فوجأتُ عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: «هن حولي يسألنني النفقة». فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقولان تسألان النبي ما ليس عنده، فنهاهم رسول الله، فقلن: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده. قال وأنزل الله عز وجل الخيار، فبدأ بعائشة رضي الله عنها، فقال إني ذاكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، قلت: وما هو؟ قال: فتلا عليها: (يا أَيها النبيُّ قلْ لأَزْوَاجكَ) (الآية)، قالت عائشة: أفيك أستأمر أبويَّ بل أختار الله ورسوله، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال: «إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً، ولكن بعثني ميسراً، لا تسألني امرأة منهن عما اخترتِ إلا أخبرتها» (أخرجه مسلم وأحمد) إن هذه الرواية التي قراناها تخبرنا بصورة لا تقبل الشك أن الإنسان المؤمن الحقيقي، الإنسان الذي تشبعت خلايا وجدانه وكل نبضات قلبه بحب الله ونبيه، لا يمكن أن يقبل الأرضي بديلاً عن السماوي، ولا يقبل متع الدنيا مبتعداً عن ملذات الأخرى، ولا يمكن أن يستفتئ أو يستأمر الأب أو يطاع بديلاً من الله ورسوله. وقول السيدة عائشة رضي الله عنها «أفيك أستأمر أبويَّ بل اختار الله ورسوله»، هو أحد الأقوال التي علينا أن نعلمها أولادنا، وهي الوقوف مع الإلهي وترك الأرضي، الوقوف الدائم وإبعاد الزائل، والانشغال بالخالد حتى لا يأخذنا اليومي إلى حفر الحياة ويتركنا هناك. من هنا أرى ضرورة الذهاب دائماً إلى عمق الوعي الإنساني، إعطاء مما منحك الله من خير ومحبة وسعادة ونجاح إلى الآخرين لإسعادهم، فإن لم تفعل ذلك، فأنت لا تقدر قيمة الحياة ولا تقدر النعم التي أعطيت، أنت لا تملك شيئاً إلا لعبور طريق دنياك، أنت لست إلا قناة للخير لا أكثر من ذلك.