«الآن فهمت وعرفت لما ابني كان يتصرف بهذه التصرفات.. تركته سنة في روضة الحد وكنت أحياناً ألاحظ أن جسمه حار وكنت أسالهم إن كانوا يقومون بتشغيل المكيف أو لا، كما كنت ألاحظ أنه دائماً ما يكون جائعاً، وصدقوني ما إن أمر بالقرب منها الآن ورغم مرور السنوات أجده يخاف كثيراً ويختبئ تحت مقعد السيارة ولا يود أن أمر بالقرب منها بسيارتي!».
أحدهم يقول «ابن أخي باتت تصرفاته غريبة عندما كان فيها.. كنا نضطر لحمله إجباراً حتى يتجه لها.. كان يبكي ويتمسك بالجدران حتى لا نأخذه إليها، وبعد أن نقلناه منها إلى حضانة أخرى أصبح الآن طبيعياً وبات يندمج مع الأطفال»، وتقول إحداهن: «تركت ولدي يومين فيها ونقلته لأنها كانت بعيدة عن منطقة سكني، لكنه خلال هذين اليومين لم يكن طبيعياً.. كان دائم الإرهاق والبكاء».
إن واقعة حادثة حضانة الحد، والتي بدأت بتداول رسالة على برنامج الوتس اب الهاتفي مرفقة بصورة كدليل على ما كتب ونشر بشأن مظاهر العنف والتعذيب التي كانت تمارس فيها تجاه أطفال لم يبلغوا بعد سناً يسمح لهم بالكلام والتعبير عما يتعرضون له أو وصفه، أعتقد أنها باتت اليوم كمثل الجواب الذي جاء للعديد من أولياء الأمور الذين خرج أطفالهم من هذه الحضانة من سنين، وكانت لديهم علامات استفهام عن أسباب التصرفات الغريبة لأبنائهم وكرههم التام للاتجاه للحضانة في تلك الفترة.
هي مصادفة القدر التي بعثت بجواب قد يبدو متأخراً كثيراً للعديد من أولياء الأمور الذين يقعون اليوم خارج الدائرة الواقعة الحاصلة بين إدارة الحضانة وبين أولياء الأمور كطرفين في هذه القضية، والتي جاءت كفضيحة تعليمية وكارثة هزت الكثير من العائلات بعد ما سمعوه ووصل إليهم من تصرفات -إن صدقت التهم فيها- تعكس خللاً نفسياً وسلوكياً، ويبدو أن شمس الحقيقة سطعت أخيراً ليفهموا ما الذي كان يحدث بالضبط في تلك الفترة التي كانوا يجدون أبناءهم يرفضون الاتجاه لها وظنوا أن هذا «دلع أطفال» أو عدم رغبة بالحضور والتعليم.
وكأن هناك خيوطاً للقضية قد بدأت الآن تتشابك وتجتمع لتؤكد أكثر ومع ظهور القصص واكتشاف أن ما جرى لهؤلاء الأطفال كان حتماً يجري لأطفالهم، فانتباه أكثر من ولي أمر بأن ابنه هو الآخر كان دائم التعب والجوع وكثير الخوف عندما يذكر أمامه اسم الروضة، ولا يرغب بالاتجاه لها، كلها أمور تصب في أن «البرودكاست» المتداول على الوتس آب يحمل شيئاً من الحقيقة ويكشف ما غاب عنهم من سنين ورسالة موجهه إلى الجهات المعنية بضرورة تدارك ما حصل، ليس بإغلاق الحضانة ومحاسبة القائمين عليها فحسب، فهذا دواء مسكن، بل مراعاة الجانب النفسي لجميع الأطفال الذين دخلوها وتعرضوا فيها لأبشع أصناف التعذيب والضرب، والتي قد تختزن في داخلهم إلى أن يكبروا وتظهر لاحقاً كمظاهر عنف وعدم رغبة بالتعلم، ومن ثم محاولة معالجتهم نفسياً عن طريق اختصاصيين ومرشدين نفسيين وسلوكيين.
لا نعلم كيف تبرر الجهات المعنية وجود رقابة ومتابعة دائمة على دور الحضانة والروضات فيما هذه القصة التي استمرت من سنين لم يكتشفها أحد، وفي كل يوم يكتشف أن هناك عائلة أخرى فهمت أخيراً تصرفات ابنها الغريبة، فتجد الحزن والأسى والغضب ينالهم هم أيضاً، لذا فإن كانت هناك رقابة حقاً فنتمنى أن تعي الجهات المعنية أنها لم تكن فاعلة بالدرجة التي من الممكن فيها أن تكتشف مسلسل التعذيب هذا بنفسها قبل أن تكشفه مدرسة سخرها القدر ربما لفضح ما يتم، كما لا بد بعد هذه الواقعة الأليمة إيجاد نظام رقابة فعال أكثر يضمن، لا الكشف فقط، بل المعالجة أيضاً لكل آثار نفسية وسلوكية تترتب على الأطفال قادة المستقبل وثروة الوطن الحقيقية، فأطفال حضانة الحد اغتصبت طفولتهم بالعنف والضرب والتعذيب، وهم يحتاجون مع الأطفال الآخرين الذين دخلوها وخرجوا منها دون أن يدري أولياء أمورهم عما تعرضوا له إلى متابعة سلوكية ونفسية وسلسلة علاج تمحو آثار كل ما شاهدوه وتذوقوه ألماً.

- إحساس عابر (1)..
ما قامت به المدرسة يعد خطوة شجاعة في عدم السكوت والتكلم والله يعلم كم من القصص المأساوية كانت ستكون مستمرة في معتقل التعذيب هذا لولا شجاعتها ومخاطرتها في التكلم وفضح ما يتم، هذا هو مفهوم المواطنة الصالحة، وما جاء في تعاليم ديننا الحنيف ألا ترضى على الآخرين بما لا ترضاه على نفسك، وألا تكون شيطاناً أخرس عندما ترى مظهراً من مظاهر الفساد ولا تحرك ساكناً أو تكون لك يد في إنهائه والتصدي له.
- إحساس عابر (2)..
كانت تنتظر الشتاء بفارغ الصبر لارتداء معطفها الأصفر الذي اشتراه لها أهلها من الخارج، ارتدته في ذلك اليوم واتجهت للروضة بمنطقتها، وشاءت الظروف أن تقوم المدرسة باستخراج كل أولاد الصف وترك البنات بمفردهن قليلاً من الوقت لأخذهم إلى مسرح الروضة للاستعداد لبروفة التخرج، إحدى الفتيات المشاغبات قامت بأخذ قلم السبورة و«الشخبطة» على يد فتاة أخرى أخذت تبكي بشدة، فما كان من فتاة المعطف الأصفر إلا محاولة مساعدتها لتسكت عن البكاء فأخذت ممسحة السبورة ببراءة ظناً منها أنها عندما ستمسح على يدها ستزول «الشخبطة»، كما تفعل المدرسة عندما تكتب بالقلم وتمسح بالممسحة، في تلك الأثناء سمعت مديرة المدرسة بكاء الطفلة وهي تمر بالقرب من الفصل، فدخلت وما إن رأت يد الطفلة عليها آثار الممسحة السوداء ظنت أن بكاءها يأتي بسبب هذه الطفلة التي حاولت مساعدتها فقامت بضربها بالممسحة على فمها ووجهها أمام الطالبات، وأخذت تطبع البقع السوداء على معطفها الأصفر، ثم طلبت منها أن تقف خارج الفصل في البرد كعقاب لها دون أن تستمع للطفلة وما كانت تحاول القيام به.
يعجز الطفل أحياناً عن التعبير والكلام، ولا يملك من يدافع عنه أمام تصرفات العنجهية والعنف للآخرين، لذا نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تنظيم برامج من قبل الجهات المعنية للأطفال لإشاعة ثقافة كيف يبلغ الطفل عما يتعرض له، وقبل ذلك إيجاد الوسائل التي تساعده على ذلك، خاصة في دار الروضات والحضانات، وتنمية سلوك كيف يدافع الطفل عن نفسه عندما يتعرض لمثل هذه المواقف.