تدفع ممارسات بعض المتربعين على عرش البرجوازية البيروقراطية لعصر جيولوجي كامل شبابنا للانضمام للسلك العسكري كجندي فراراً من منعرجات الخدمة المدنية، أو لعدم إكمالهم التعليم. وهناك يتم شحنه بجرعة وطنية ينسيه عنفوانها مطالبه الأساسية، كالتأهيل حين يعود للمدنية ليمارس دوره كمواطن صالح مثبتاً أن المؤسسة العسكرية جزء من عملية تنمية المجتمع، وليست محكومية تبدأ من بوابة مدرسة الأغرار وتنتهي عند بوابة إنهاء الخدمة أو كما كنا نسميه «فرع تسقيط الأرقام» وكأننا سيارة انتهى عمرها الافتراضي.
يقفز الكولونيل القابع في داخلي وتأخذني الغيرة عند الحديث عن العسكرية، فقد كنت مشرفاً ضمن مشروع تأهيل 80 ضابط صف فني في بريطانيا في التسعينات، حيث تثلج صدري مقابلة بعضهم وهو يعمل في الخطوط الجوية أو لديه نشاطه الهندسي الخاص أو مازال على الخط الأول بيده أمر إقلاع طائرات الهورنيت. لكن السؤال الذي مازال يقتحم بغضب بروتوكول تبادلي التحية مع بعضهم الآخر هو؛ ماذا تفعل هنا بحق الله!
أقولها حين أجده وقد انزوى يمارس العمل الإداري وقد خط الشيب مفرقه دون أن يكون ضمن وحدات المناورة أو صاحب عمل خاص أو وظيفة مميزة. لا شك أن هناك فروقاً بين الرجال والظروف، لكن الحق أحق أن يتبع، والحق هو أن وطنه أهله للعمل الفني.
لن نتحدث عن تقليص الفوارق في الأجور بين الضباط وضباط الصف في المؤسسة العسكرية الخليجية، بل سنتحدث عن رفع المهارات وإتاحة الفرصة للجندي كما هي للضابط في الحصول على التأهيل داخل وخارج المعسكر والبلد.
فقد أقر في قمة مجلس التعاون الــ34 في الكويت إنشاء أكاديمية خليجية للدراسات الاستراتيجية، وهناك تبادل في تدريب الضباط بين دول مجلس التعاون، لكن تدريب غير الضباط ليس بنفس التوسع، فحين تدخل دورة أساسية أو متقدمة في إحدى القوات لا تجد إلا جندي خليجي واحد أو اثنين.
لقد وثق أنتوني كوردسمان حالة الرتب العسكرية العربية من غير الضباط في حرب تحرير الكويت1991م في سفره العسكري الضخم «دروس الحرب الحديثة»، فقال: «إن جزءاً ملموساً من قوات الدعم الأمريكية كان من الاحتياط، كما إن القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية كان بها أعداد كبيرة من ضباط صف ذوي كفاءة وخبرة عالية، وقاموا بأداء مهام عادة ما كان يكلف بها ضباط في الجيش العراقي ومعظم جيوش دول العالم الثالث، هؤلاء من ضباط الصف لعبوا دوراً حيوياً في قدرة قوات التحالف على استخدام تكنولوجيات وتكتيكات عالية والمحافظة على معدلات جديدة للقتال، لقد حققوا للقوات الغربية ميزة حيوية في العامل البشري على العراق التي كانت لديه قياده جامدة واعتمدت على الضباط الصغار كبديل لضباط الصف جيدي الترتيب، وبذلك خلقوا فجوة بين الضباط والمجندين».
لقد بيع من كتاب كوردسمان لوزارات الدفاع الخليجية آلاف النسخ، فقد كان من الواجب تشجيع مترجمه وصاحب حقوق تعريبه المشير عبدالحليم أبوغزالة، قائد القوات المصرية في تلك الحرب، فأين وصلنا منذ ذلك الزمن؟ وهل أخذنا بنصائح كوردسمان / أبوغزالة؟
- في الجيش الذي قارنا به كوردسمان لا يتم تعيين ضباط الصف أو يحصلون على رُتبهم العسكرية وتأهيلهم بتزكية نائب أو تيار أو لكون والده شهيداً أو كان وفياً لمتنفذ.
- في الجيوش الراقية حضارياً لا فرق بين الضابط وغيره في الأوسمة، فكيف نفرق بين الشهداء، ويكون هناك وسام من الدرجة الأولى للضابط ومن الدرجة الثانية للجنود!
- أما آن الأوان لتطبيق الوصف الوظيفي للعسكريين، حيث يكون التأهيل والبدلات مربوطة بما يمارسه العسكري فعلياً. أليس من المنطقي تساوي البدلات طالما كانت المخاطر والمسؤولية متساوية؟
- متى سيتفرغ الضباط لمهامهم القيادية والركنية؟ ففي دول عدة يقود ضباط الصف طائرات الهليوكبتر، بل كان ضباط الصف طيارين في الطيران الملكي البريطاني.
- أليس من الحكمة إعداد ضباط الصف وتطوير قدراتهم التعبوية لقيادة صغار الوحدات بالميدان؟
لقد وجد من يشرب من نفس بئر المتربعين على عرش البرجوازية البيروقراطية المدنية طريقه للمؤسسات العسكرية الخليجية، وراح يمارس بتشريعاته القاصرة ما يشوه طبيعة الالتزامات التي تفرضها الحاجة العسكرية وشرف رفقة السلاح، حتى أصبح ضباط الصف والأفراد كمن هرب من الجيش وطاح في السرية، كما تقول أمثالنا.