معظم الدول التي اهتمت بنهوض قطاعها الإعلامي وباتت رائدة فيه؛ أنهت العهود الإعلامية القديمة القائمة على المجاملات والمحسوبيات والواسطات، إضافة لمسلسل العلاقات الشخصية، والتي تدخل في مفهوم الفساد الإداري، وتجاوزتها حيث بات الأساس في سياساتهم؛ الإنتاجية والكفاءة هو الأساس للتقدم الإعلامي وعماد الاختيار للتوظيف، خاصة مع زيادة المنافسة بين الدول في استقطاب جماهير الرأي العام.
هناك دول أحكمت إدارياً وقانونياً هذه الأمور، بحيث أخذت تقدم مصلحة الوطن على مصالح القياديين في المؤسسات الإعلامية، بل شددت رقابتها وسيطرتها على هذه الأمور لتحقيق المواطنة بنسبة 100% في مختلف المناصب القيادية والمتقدمة في تلك المؤسسات، لتكون وجوهاً معظمها من شباب الوطن، إلا -للأسف- في البحرين «الريوس الإعلامي قوي وايد والبريك معطل!»، هل تذكرون أيام الأزمة عندما ارتفعت أصوات الاستياء والاعتراض على أن الناطق الإعلامي للبحرين غير بحرينية؟!
السؤال الذي يطرح نفسه؛ لما وكيف؟ إن كانت المشكلة في نقص الكوادر البحرينية المؤهلة؛ فلماذا لم يتم التحرك على تأهيل أبناء البحرين وتطويرهم لأحداث بمثل هذا المستوى؟ رغم أنه من الواضح أننا لا نعاني نقصاً أبداً، فلو كان هناك نقص لما لمحنا وجوهاً إعلامية بحرينية جريئة ومتمكنة برزت خلال الأزمة وقطعت أشواطاً كبيرة وحققت خطوات استباقية في كشف الحقائق بإمكانات أقل من متواضعة لتلفزيون حكومي وصحف على نطاق محلي ضيق وبجهود شخصية، ورغم أنها غير مدربة ولم تنل فرصتها من التأهيل، مما يعكس موهبتها وإمكاناتها التي تحتاج للصقل أكثر. بالأصل؛ هل هناك باب مفتوح حتى تتسرب إليه هذه الطاقات الإعلامية بدل أن تهاجر، وتترك وتنمو في بيئة صحية وتتطور لتمثل بلدها وتكون واجهته الإعلامية وسفيرته في الخارج؟
ربما يتشابه الوسط الإعلامي مع الوسط الفني في هذا، والمعروف عند عموم الناس، لذا هناك من يرى أن الوسط الإعلامي والفني كلاهما وجهان لعملة واحدة، وهي عملة العلاقات الشخصية «بالعامي نقول التضبيط!»، لذا نسمع دائماً الناس يرددون أن «الوسط الإعلامي كما الوسط الفني ليس نظيفاً وبيئة لا محل لها للناس النظيفة والشريفة» وهو مفهوم خاطئ بالطبع، ففي كل مجال الصالح والطالح.
لاتزال تحضرني جملة قيلت لمعظم المبتدئين في المجال الإعلامي من الفئة «النظيفة والشريفة»؛ «أمثالكم لا مكان لهم في البيئة الإعلامية بالبحرين لأنكم لا تعرفون من أين تؤكل الكتف ولا تعرفون حب الخشوم وفنون التضبيط»، «في الإعلام البحريني اعمل قليلاً وتحدث كثيراً والتضبيط مع المسؤولين يذهب بك إلى المقدمة، والتركيز على العمل والتقيد بأخلاقيات المهنة يقذفك إلى الأخير!»، «الخطوط الحمراء التي يضعها الإعلامي بينه وبين المسؤولين تتحدد على المصالح الشخصية لا على أخلاقيات وقوانين العمل بأهمية إيجاد مسافة حتى يكون الوضع في التعامل معهم صحياً لا تشوبه مصالح وتحزبات!»، لذا ليس مستغرباً أن نجد البيئة الإعلامية معقدة ومليئة بالأحزاب والجماعات.
تلك أمور لا نقولها تخميناً؛ بل هي شواهد ووقائع يمكن لأي شخص أن يطالعها وهو يلتفت إلى دول الجوار ويقارنها بوضعنا، يجدها واضحة للعيان، فالبحرين تأخرت عن الركب، ولاتزال دولة تقليدية الطراز، ولسنا بصدد تقديم أمثلة منعاً للتشهير في وجوه تظهر كواجهة إعلامية للبحرين، في حين معلوم إمكاناتها وتاريخها ومن أين جاءت و...
في حديث بيني وبين إعلامية من لبنان، قالت لي بعد أن استعراضنا أمثلة حول غرائب الوسط الإعلامي لدينا، ومثل هذه النماذج وكيف وصلت للإعلام، إنها لاحظت أن البيئة الإعلامية البحرينية متأخرة ويتعرقل فيها التطوير بسبب الفساد الإداري ومسلسل العلاقات الشخصية الذي يعطل إبراز الطاقات وجعل الشخص المناسب في المكان المناسب، ومن جملة ما أوردته «رغم اهتمام دولتنا لبنان بالشكل والتركيز على الجمال لكن في مجال الإعلام لا مجاملات، أي صحافية لا تمتلك القدرات المطلوبة من المحال أن تدخل الوسط الإعلامي وتستمر فيه، بل إنها تزاح جانباً وتستبعد دون تردد، فهناك تركيز على الإنتاجية والكفاءة كي ينهض القطاع الإعلامي ويساهم في الاقتصاد، فمن الممكن أن تحدث مجاملات ومحسوبيات لكن ليس في مناصب قيادية ومهمة تعكس سمعتها أمام الآخرين».
ما نؤكد عليه أن ظاهرة العلاقات قبل الكفاءات في البيت الإعلامي متفشية بشكل رهيب، بل إنها قد تعد الرؤية والاستراتيجية التي يسير عليها هذا البيت في مختلف قطاعاته ومؤسساته خاصة الحكومية، لاحظوا في حملة «إعلاميون من يقدرنا» ما تم التلميح بشأنه أن الإعلاميين يودون التكلم لكنهم يخافون على مصالحهم وعلاقاتهم الوظيفية مع كبار المسؤولون، وأنهم لا حول لهم ولا قوة.
سؤال نتمنى إيجاد جواب شافٍ عليه؛ لماذا لم نجد -من بين كل الوجوه الإعلامية التي تطل على شاشه التلفزيون أو نسمعها في الإذاعة أو تلك التي تنير العقول وتتولى دوراً قيادياً يوجه الرأي العام في الصحافة- منصباً قيادياً مهماً بوزارة الإعلام منذ أكثر من عشرين سنة؟ أين يختبئ الإعلاميون البحرينيون وأين الخلل في عدم وصول أي منهم -خاصة من جيل الإعلام الحديث- لمنصب قيادي في واجهة البحرين الإعلامية؟ لماذا نرى دائماً فيتامين الواسطة والمركزية هو من يوصل من يراد له الوصول، والتهميش لمن لا يرغب فيه ويفهم خلطة، «سياسة حب الخشوم والتضبيط وعمادة العمل لمجرد العمل»؟
من المفارقات الواضحة الشخص «النمام والعقار»، الذي يوصل الكلام هو من يصل ويقدّر، فيما الإعلامي الذي لا هم له سوى التركيز على عمله «يطلع من الباب الشرقي دائماً» مهما كانت إمكاناته ومؤهلاته، ودائماً ما نرى أن حامل الشهادات الإعلامية التخصصية يكون في أدنى السلم الوظيفي بأي مؤسسة، فيما من لم يكمل تعليمه ويحمل مؤهل «التضبيط» يصل بسرعة الضوء، فلا جهات رقابية تتابع وتحاسب ولا ذمة وضمير من المسؤولين، الشخص الذي يعرف أنه يعمل قليلاً ويتكلم كثيراً ويطرق باب المسؤولين باستمرار ويجاملهم هو من يتقدم، أما من يعمل بصمت وبالخفاء ويظن أن عمله سيبرزه؛ يظل في الخفاء مدفوناً تحت ركام التجاهل، خاصة أنه لا توجد أصلاً معايير أو شروط أو جهة تتابع وتراقب، بل المسألة متروكة للمسؤول ومزاجه الخاص وضميره.