اتجهت في ذلك اليوم مع زميلاتها الطالبات وخلال رحلة ترفيهية نظمتها لهم إدارة المدرسة إلى منتزه عين عذاري، وهي تهم بمشاركة زميلاتها ركوب إحدى الألعاب قالت للمشرف على اللعبة: «حزام وباب اللعبة لا يغلق»، فطلب منها الركوب وعدم الاكتراث، فركبت في لعبة من المعروف أنها تتجه بالعربات التي فيها إلى ارتفاع عالٍ ثم تدور بقوة وتعاود النزول، فتح باب العربة وسقطت مما أدى إلى حدوث كسور لها في الظهر والقدم والجمجمة ورضوض بالجسم.
اسمها لطيفة محمد الجودر؛ طالبة في المرحلة الإعدادية، وبدلاً من أن تستعد لاقتراب نهاية العام الدراسي وأن تكون على مقاعد الدراسة وجدت نفسها على سرير العناية المركزة، ولولا لطف الله وستره لكان الشرخ الحاصل في الجمجمة لها «بعيد الشر» قد أدى إلى إصابات وعاهات لا يمكن الشفاء منها، حيث كان واضحاً من كلام الطبيب التخوف أن يؤدي هذا الشرخ إلى نزيف أو انتكاسة، لا سمح الله، ولذا جدد مدة بقائها في العناية المركزة.
المسألة مؤسفة جداً؛ وتأخذ عدة أبعاد لمن ينظر للموضوع، فالأول يرسخ صورة متمثلة في عدم وجود نية جادة من قبل المسؤولين في العناية بجيل المستقبل والحفاظ على سلامتهم وأرواحهم، وتدعيم مبدأ أن المواطن هو الكنز الحقيقي وثروة الوطن أمام التكشف الكبير الحاصل عبر وسائل الإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي، التي التقطت الخبر وبثته، فلطيفة كانت ستكون الضحية الجديدة للإهمال في المسلسل التعليمي الدرامي لهذه السنة، لاحظوا سلسلة حوادث المدارس ورياض الأطفال المتتالية خلال أشهر قليلة ماضية، جميعها كانت قصصاً مأساوية و«أكشن»، وجميعها أيضاً وفي سيناريو أحداثها وغرابة تفاصيلها تكشف النواقص والخلل الحاصل في ما يخص مسألة الرقابة وضعف التطبيق الفعلي للقوانين والأنظمة، وقبل ذلك الفراغ التشريعي الحاصل في إيجاد آليات تضمن حفظ سلامة الطلبة من بداية اليوم الدراسي إلى نهايته، وجميعها تطيح بسمعة البحرين التعليمية وتظهر أمام الآخرين أن حقوق الطفل والطلبة لدينا منسية ومركونة على رف الإهمال، وذلك أمر لا أحد يرضاه بالطبع، فسمعة البحرين من سمعتنا جميعاً كمواطنين، خصوصاً أن البحرين كانت قديماً وعلى مستوى الخليج رائدة في القطاع التعليمي وهي من تصدر العلم وطلبته إلى دول الجوار.
طلبة العلم هم قادة المستقبل وأجياله؛ فكيف يتم التهاون بأرواحهم بهذه الطريقة؟ لن نقبل بتقاذف الجهات المعنية المسؤولية ووضع الخطأ على عامل اللعبة والادعاء بأنه تم توقيفه، فهو وإن كان المعني بعدم السماح لها بركوب عربة اللعبة طالما هي معطلة، لكن المسؤولية لا تقتصر عليه هو فقط، فهو بالنهاية مجرد عامل في مشروع ترفيهي له وزنه وله سمعته، والأمر من هذا وذاك أن اسم المشروع يحمل شيئاً من تاريخ البحرين وسمعتها.
نحن لا ننظر للموضوع من زاوية الإهمال فقط ونرمي الكرة في مرمى القائمين على منتزه عين عذاري؛ بل كذلك من جانب المسؤولين في وزارة التربية والتعليم في عدم متابعة مدى التزام المنتزه باشتراطات السلامة قبل السماح للمدارس بتنظيم رحلات ميدانية للمنتزه، فهل حياة لطيفة وغيرها من الطلبة رخيصة إلى هذه الدرجة لكي يتم التهاون فيها بهذه الطريقة؟
المثير في المسألة أحاديث عدد من المدرسات وتعليقات المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن ما كشفوه بأن البعض قد طالب بمنع أخذ الطلبة في رحلات مدرسية إلى منتزه عين عذاري بسبب عدم صيانة الألعاب وتعطل البعض الآخر منها، والمخاطر التي قد تحصل لدى الطلبة، إلا أن وزارة التربية والتعليم، كما يبدو، أنها متعاقدة مع المنتزه في ما يخص الرحلات، حيث بات من المعروف أن الرحلات المدرسية المنظمة غالباً ما تكون لهذا المنتزه من منطلق «ما في هالبلد إلا هالولد»!
إنه استهتار وضربة تهز شيئاً من سمعة البحرين لا تقل عن الضربات الإرهابية اليومية في جسد الاقتصاد البحريني، فما حصل لا يمثل حادثاً عارضاً وانتهى؛ بل حادثاً يكشف شيئاً من الخلل الموجود في مسألة الرقابة، فأين كان دور المدرسة والمسؤولين في منتزه عين عذاري في التأكد من سلامة الألعاب وعدم تعطلها قبل وضع الطلبة فيها؟ من سمح بفتح المنتزه واستقبال الطلبة فيه وبعض الألعاب معطلة؟ من تهاون في عدم التأكد من أن حزام اللعبة وباب العربة معطل وترك لطيفة تركبها بل وعندما أخبرتهم أنها معطلة تهاونوا وتركوها تدخلها وتجلس فيها دون الاستماع لملاحظتها؟ في شركات الطيران تقوم المضيفة بالمرور على المسافرين للتأكد من لبسهم الحزام قبل إقلاع الطائرة؛ فأين كانت المدرسة المشرفة والمسؤولة بالدرجة الأولى على هؤلاء الطالبات من عدم متابعتهن والتأكد من سلامتهن قبل بدء تشغيل اللعبة؟
أما الجانب الآخر فهو اسم المشروع الذي يحمل شيئاً من تاريخ البحرين وكنيتها التي تشتهر بها على مستوى الخليج والمنطقة، والذي تتذكره الأجيال التي عايشته إلى اليوم، ليس في البحرين بل في الخليج كله بأنه أحد أهم المعالم التاريخية في البحرين، عين عذاري تاريخ كبير، عندما يستطلع المرء ويقرأ فيه عن هذه العين يجد أن لها أسطورة قديمة ورد ذكرها قبل 800 سنة، وأنها تعد من أقدم العيون في منطقة الخليج وأكثرها شهرة، ومن المؤسف جداً أنه لم يتم التفكر في تحويلها لأسطورة سياحية وطنية تستقطب من خلال تاريخها الناس والسياح، عين عذاري التي تحولت اليوم للأسف إلى مشروع ترفيهي متواضع جداً يضم عدداً من الألعاب لا يعكس تاريخها وعراقتها، كان من الممكن استغلال هذا الإرث وأسطورتها وحكاية سرها في كونها عيناً لا تسقي النخيل القريبة منها ومن حولها وتسقي الأشجار والنخيل البعيدة عنها، في تحويل ذلك واستغلال هذا السر إلى مشروع ترفيهي سياحي ضخم، وتحويل قصة عين عذاري بالذات إلى حكاية مسرحية ثقافية كما تفعل بعض الدول السياحية اليوم في إنشاء المسارح الثقافية ودعم اقتصادها باستغلال بعض الأساطير فيها لتحويلها إلى مسرحية مثيرة يهتم الناس بمطالعتها وحضورها والتثقف في قصتها وتأتي بمردود اقتصادي، يقابلها سوق تباع فيه تذكارات عن العيون والبحرين، ومتحف يحكي عن تاريخ العيون الحلوة التي تشتهر بها البحرين كنوع من التوثيق، إلى جانب إنشاء عدد من الألعاب المائية المكشوفة وغير المكشوفة التي يصلح اللعب فيها طيلة العام وفي الشتاء والصيف وبرامج الترفيه والتسالي! مجمع فراري على سبيل المثال بأبوظبي الإمارات يتوافد عليه الكثير من السياح لمعرفة قصة تأسيس هذه الشركة وشراء التذكارات والتجول فيه!
كان من الممكن أن يكون هذا المشروع معلماً وطنياً جديداً يقوم على معلم تاريخي قديم يمثل أحد عناوين البحرين بدلاً من مشروع ترفيهي متواضع يدفن اسمه العريق ومكان العيون، والأمرّ من هذا أن نجده يتحول إلى معول هدم هو الآخر لأعمدة الوطن وأجيال مستقبله ويسيء لتاريخه وتاريخنا التعليمي وتاريخ هذه العين معه! مؤسف أن تأتي الضربة في ما يخص الحادث الأخير فيه لجانبين أولهما السمعة التعليمية والثانية السمعة التاريخية!
- إحساس عابر...
عين عذاري معلم تاريخي مهم كان من الممكن استغلاله بشكل أكثر من الشكل المتواضع الحالي.. لا يكاد يمر خليجي عاصر فترتها ويعلم عن قصتها لا يسأل عنها وعن مكانها وكيف صارت، كما إنها ذكرت في مذكرات المستشار الإنجليزي الخاص لحاكم البحرين سابقاً السيد تشارلز بلجريف.